رسالة القوة المشتركة في وجه أمريكا وأتباعها
بشار محي الدين المحمد
تكثر التحليلات والتأويلات حول أسباب زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الإمارات والسعودية، وما سيتبعها من زيارات إلى قوى كبرى في مناطق العالم تتحدّى السياسة الأمريكية الرعناء، سواءٌ في إيران أم فنزويلا، وسواءٌ أكانت هذه الزيارة مجدولة سابقاً أم مقرّرة، إلا أن توقيتها الآن يحمل أبلغ الدلالات، وهي بالتأكيد ستكون ذات طابع سياسي أكثر من تأكيد الشراكات الاقتصادية والتجارية ومواضيع أمن واستقرار أسواق الطاقة العالمية، لتتعدّى ذلك إلى ربط الزيارة بساحات الصراعات الدولية المتعدّدة التي يشعلها القطب الغربي، وخاصةً في الشرق الأوسط الذي أصبح يحوي الآن ثلاث حاملات طائرات أمريكية، وهي بالتأكيد ليست موجودة لإكمال عملية قتل الأجنّة والخدّج والنساء في حاضنات ومشافي قطاع غزة، فجيش الاحتلال مدعوماً بالجسور الجوية والبحرية الغربية يحقق هدفه وأكثر بأبشع الصور، ولا تفسير لوجود تلك المدمّرات سوى الرغبة الأمريكية الجامحة بعزل روسيا عن كل العالم، وخاصةً في منطقة الشرق الأوسط بعد فرضهم عزلها على دول الغرب الجماعي في أوروبا الغربية وعدد من دول البلقان والبلطيق، ناهيك عن العمل على إنهاء تحالفاتها العسكرية والأمنية في المنطقة، أو وجود أي قواعد لقواتها حتى لو كان ذلك بشكل شرعي وقانوني ضمن المياه الدافئة.
وتترافق زيارة بوتين مع تصريحات دبلوماسية إيرانية تؤكد دعم المقاومة في قطاع غزة، والتلويح بالاستعداد التام للدفاع عن إيران في حال وجود أي مخططات أو تمادٍ صهيو – أمريكي لتوسيع الصراع ضدّها، مع التأكيد المستمر عبر ممثليها الدبلوماسيين أن طهران تسير ضمن المسارات السلمية والتفاوضية لحل كل القضايا الخلافية وعلى رأسها الملف النووي السلمي.
كذلك تترافق هذه الزيارة من خشية صهيو -أمركية من تمدّد زمن الحرب في غزة، ومخاوف وتصريحات من الجانبين تظهر مدى القلق على مصير الكيان الصهيوني بعد خسائره في العدد والعتاد وانهيار العملة والاقتصاد، وتحول أسطورة “أمن إسرائيل” إلى رماد، مع تعالٍ غير مسبوق عالمياً بالأصوات الرسمية والشعبية المندّدة بالعدوان الصهيوني، والداعية إلى قطع العلاقات مع الكيان وطرد سفرائه، بل الأهم من ذلك ظهور اتجاه يهودي يرغب في إدانة “إسرائيل” وينطلق من أمريكا والغرب بعد الكم الهائل من جرائم حكومة الكيان الأكثر تطرّفاً في التاريخ الحديث.
ولا بدّ من التدقيق هنا -وفي سياق متصل- في معركة الردّ على “حرب المضائق” التي تستخدمها أمريكا في بحور ومحيطات العالم ضدّ كل العالم لتحقيق سطوتها ونفوذها كأي عصابة قراصنة، حيث أصبحت وللمرة الأولى تستعر بشكل متزامن وتستخدم ضدّها وضدّ “إسرائيل” من المقاومة اليمنية، وطبعاً هنا أمريكا تربط بين الصواريخ المجنّحة ذات الدقة العالية والمسيّرات التي ظهرت في يد المقاومة من جهة، وبين روسيا وإيران صاحبتي التكنولوجيا العسكرية العالية واليد الممدودة لكل حركات التحرّر من جهةٍ أخرى بغض النظر عن التأكيد الصريح لمصدر أسلحة المقاومة، إذ يمكننا أن نلتمس مدى الغضب الأمريكي من فشل أذرعهم في إشغال القوات الروسية في سورية، ليجدوا أن قواتهم هي من باتت في خطر محدق ضمن المنطقة وتعاني أكبر الانشغال وتحاول تغيير أماكن تمركزها وترتيباتها، في وقت لا يريد فيه رئيس أمريكا جو بايدن بكل صراحة أي نوع من الوجود للقوات الروسية أو أي قوات تتحالف أو تتقارب معها خلف خطوط “الناتو” في الشرق الأوسط، وخاصة أن حضور بوتين إلى الخليج يؤكد بشكل مطلق أنه بدأ بالتنسيق مع رأس الحربة في الشرق الأوسط لإعادة ترتيب كل العلاقات والأوضاع المتوترة بداخله للتمهيد إلى وضع أفضل ربما ينتهي بطرد اللاعب الأمريكي من ساحاته ودحره.
كذلك تتضمّن زيارة بوتين رسائل ودلالاتٍ قوية؛ فهي ثالث زيارة لزعيم روسي إلى السعودية بعد فتور طويل تلته سنوات سبع من النمو المتسارع في العلاقات الاقتصادية والجيواستراتيجية، وأول زيارة بعيدة لبوتين إلى دولة بعيدة بعد اندلاع الحرب الأوكرانية، وبشكل يعبّر عن تراخي الدعم والموقف الغربي لأوكرانيا، وخاصةً بعد رفض الساسة الأمريكيين قرار بايدن ربط ملف الدعم لأوكرانيا بملف دعم الكيان الصهيوني، حيث تظهر قوة الموقف الروسي دبلوماسياً وعسكرياً، وخاصةً بعد رؤية 4 مقاتلات روسية- نوع “سو 35” ترافق الطائرة الروسية الأولى لكل هذه المسافة لتقول للعالم: إن “أربع طائرات حربية روسية تحمل اثني عشر صاروخاً قادرة على تسيّد الجو وحماية طائرة رئيس مهما كانت وممّن كانت التهديدات ولمسافة كبيرة ودون التزوّد بالوقود حتى”، فضلاً عمّا يمثله ذلك من تنسيق بين الجيش الروسي وجيشي الإمارات والسعودية، وما تلا ذلك المشهد من مظاهر استقبال ملكية في كل من الإمارات والسعودية وحفاوة وترحيب ربما لا يعجبان بايدن كثيراً.
وتأتي الزيارة في سياق تحوّلات كبرى في هذا التوقيت بعد فشل ما يسمّى “الهجوم الأوكراني المضاد” لبحث مسائل وملفات سياسية في المنطقة والعالم وعلى رأسها الوضع في فلسطين المحتلة والعدوان الإسرائيلي على غزة، نظراً للمواقف والرؤى المشتركة للوضع في غزة وتأكيد الدول الثلاث وفق مواقف متشابهة المبادرة العربية وتطبيق قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، والبدء بالدرجة الأولى بالحل الإنساني وإيقاف بحر الدم الفلسطيني النازف لضمان السلام في المنطقة والعالم في ظلّ الصمت والسكون غير المبرّرين من الدول الكبرى وعدم لعبها أي دور مناصر أو على الأقل محايد يحقق سلامة وحقوق الشعب الفلسطيني، وتأكيد إمكانية مناصرة القضية الفلسطينية عبر حجم روسيا كدولة كبرى وتحالف بريكس ودوله من خلال إيجاد هدنة طويلة الأمد.
ومن جهة أخرى، تعبّر مظاهر حفاوة الاستقبال الخليجية لبوتين عن مدى القوة الاقتصادية والسياسية الذي وصلت إليها الإمارات والسعودية وحجم النفوذ على مستوى المنطقة والعالم، وأنه يمكنهما الاتجاه شرقاً أو غرباً ضمن سياسة التعدّد بما يحقق مصالح شعبيهما والمنطقة، لا بما تمليه الإدارة الأمريكية، وهو بالتالي يمثل إفشالاً للهدف الأمريكي في إنهاء الوجود الروسي حتى على الصعيد الاقتصادي ضمن المنطقة في سياق سياستها لتطويق روسيا واحتواء نمو قوتها عسكرياً واقتصادياً ودبلوماسياً، الذي يظهر يوماً بعد يوم أنه أمر شبه مستحيل وبشكل متزايد.
هذه الزيارة توجّه رسالة واضحة بأن التعاون والتبادل بين الأطراف الثلاثة بلغ حداً غير مسبوق من النماء والارتقاء، وأن روسيا توجّهت للشراكة مع الشرق فحققت النجاح مع الصين والهند والخليج بشكل يفوق التوقعات بعد الإجراءات العنجهية من الغرب التي راهنت على شل الاقتصاد الروسي، حيث يظهر السعي الحثيث لرفع حجم التعاون وتوسيع القاعدة الاستثمارية بين روسيا والسعودية والإمارات، إضافةً إلى زيادة التنسيق ضمن إطار تحالف أوبك بلس لتحقيق توازن سوق الطاقة لكل الدول، وخاصة التي تعتمد على النفط في بناء اقتصاداتها بعد أسبوع من قرار روسيا والسعودية تمديد الخفض الطوعي لصادرات النفط حتى الربع الأول من عام 2024.