الضحك الأسود..!
حسن حميد
ها أنذا، أرى، وأتابعُ، وأعي ما يقوم به أعداؤنا الإسرائيليون منذ ورّثهم الانكليز بلادنا الفلسطينية على مرأى ومسمع العالم كلّه، ومنذ أن مهّدوا لقيام كيانهم الوهم، بوعد بلفور، وصك الانتداب الذي صاغوه في عصبة الأمم، ومنذ أن طبعوا النقد الفلسطيني، والأوراق الرسمية والمراسلات عامة باللغات الثلاث: العربية والانكليزية والعبرية، ومنذ أن تخلّوا لهم عن المعسكرات كيما يعدوا قوتهم للساعة الموعودة، ومنذ أن ورّثوهم مستودعات الأسلحة في عام 1948.
نعم، إنني أرى وأتابع وأعي ما فعله أعداؤنا منذ 75 سنة، وهم في كلّ جولانهم وانهمامهم يبحثون عن وثيقة واحدة، غير دينية، ليستندوا إليها كمرجعية تاريخية مثل الآثار، أو العمران، أو المصكوكات النقدية، أو دور عبادة، ولكن الإخفاق في الوصول إلى وثيقة، أو حفرية معرفية، أو كتاب معتبر.. جعلهم حيرى، تخيفهم الأسئلة الكواشف، وأبرزها: من نحن؟! فهم حين يسألون هذا السؤال لا ينامون في ليل أو نهار ويؤرقون، لذلك ما كان لهم سوى اللجوء إلى السرقة، سرقة كلّ شيء يتعلق بالتاريخ، والجغرافية، والآداب، والفنون، والعادات، والتقاليد، فعملوا ليل نهار من أجل تهويد كلّ شيء على الإطلاق كيما يقولوا وهماً وكذباً بأنّ لهم جذراً ما في هذه البلاد العزيزة، وفي الطرف المقابل وحين يريدون تعريفاً للفلسطيني يجدون له، ومن دون عناء، حضوراً باذخاً في العمران، والزراعة، والصناعة، والآداب والفنون، وأينما جالوا في بلانا العزيزة، وتحت حراسة سلاحهم، يسمعون الريح المارة بهم تغني: فلسطين لأهلها الفلسطينيين، وإن مرّوا بشجر السدر، أو أجمات القصب، أو حقول القمح، يسمعون الهتاف المدوي النابع من الجذور: فلسطين، فلسطين.
***
أقول هذا، وأنا أرى رأي العين، هذه الحيرة التي تماشيهم، وهي حيرة المذهول الخائف، وأسمع بأذني سؤالهم الموجع الذي يوصّف قلقهم الوجودي: من نحن! وأسمع أيضاً سؤالهم المحتشد بالغيظ: لماذا نحن هنا، وإلى متى سنظلّ طيّ الخوف، وإلى متى سنظلّ نتمرّن جيلاً بعد جيل على إجادة القتل؟!.
***
وفي هذه السنوات الأخيرة، ومنها الشهور الفائتات أيضاً، أرى مشهديات عربدة القوة، وقطوفها البادية من تدمير، وقتل، وخراب، وتعطيل لكلّ مفاعيل الحياة، وأرى قادة التطرف بينهم يتسابقون إلى المزيد من التطرّف، وأسمع قولتهم الهزلية المحتشدة بالباطل: نحن ندافع عن أنفسنا، بلى كلّ سارق، وكلّ لص، وكلّ قاطع طريق يقول: الحلال ما حلّ في اليد، أيّ كلّ ما وصل إلى يده يصبح حلالاً.
في السنوات الأخيرة، تجرّأ الإسرائيليون إلى حدّ التهوّر، والمبارزة، والعماء فرأيناهم يدهمون دور العبادة بلا حياء، بلا اعتبار.. لأنهم لا يعرفون قدراً أو قيمة للعقائد والمقدسات، ويعطلون المدارس لأنهم يريدون كيّ الوعي، ويخربون الصناعات، ويغلقون الأسواق، ويهدمون البيوت، ويعطلون المشافي، ويبنون الحواجز، وينشرون ثقافة الموت والخوف والتزييف كي يشوّهوا السردية الفلسطينية، أما الأخطر فقد بدا جلياً في السنوات الأخيرة، وهو مفزع وغارق في الحقد والعنصرية، إنّهم، وفي كلّ هجمة بربرية في الضفة الفلسطينية، يتقصّدون تدمير البيوت، والحارات، والأحياء، والمساجد، والمدارس القديمة التي بُنيت قبل وعد بلفور، وصكوك الانتداب، وقبل تغوّل قوتهم، إنهم يدمّرون تراث نابلس، والقدس، وبيت لحم، والخليل رويداً رويداً لأنهم يخافون التاريخ الفلسطيني، والعمران الفلسطيني، وها هم، منذ شهرين وأزيد، يفعلون الفعل نفسه في قطاع غزة، إنهم يدمّرون مدينة غزة القديمة، ويدمّرون المدارس القديمة التي عمرها 1000 سنة وأزيد، ودور العبادة، من مساجد وكنائس وزوايا وتكايا، مثل المسجد العمري، ومسجد هاشم جد الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)، والكنيسة المعمدانية التي تعدّ من أقدم كنائس الدنيا التي تشير إلى أنّ هذه الأرض الفلسطينية هي دارة العقائد، وهي دارة سيدنا الجليل المسيح عليه السلام، ويدمّرون كلّ ما هو مرشّح ليكون من التراث الإنساني العالمي، لقد دمّروا ميناء غزة، وتل أم عامر وما حوله، ووادي غزة وما حوله من قصور وأبنية قديمة لأنها جميعاً علامات جلية بادية على تقدّم العمران الفلسطيني وعظمته، وقد دمّروا الجامع العمري وعمره 1000 سنة وأزيد، وكنيسة (بروفوريس) وعمرها 1500 سنة وأزيد، ودير القديس هيلاريون وعمره 1400 سنة وأزيد، ودمّروا المتاحف كمتحف القرارة، ومتحف خان يونس وقصر الباشا الذي اتخذه نابليون بونابرت مقرّاً لإقامته قبل أن تهزمه البلاد، ودمّروا الحمّامات القديمة، والأسواق، والخانق أهات الدّالة على حيوية الاقتصاد والسياحة في غزة، المكان الحضاري العزيز الذي هو صلة الوصل بين جغرافيات ثلاث: آسيا وأفريقيا وأوروبا.
أجل، ما عاد هنا أو هناك ما يخفيه حكّام الغرب الذين أصابهم الصمم والطرش والخرس، منذ 75 سنة تجاه المحتل الإسرائيلي، ولذلك يقولون مع كلّ عربدة دموية إسرائيلية، إنّ هذه الحرب بين الفلسطينيين والإسرائيليين هي حرب بين الحضارة والهمجية، وهي حرب الإسرائيليين دفاعاً عن النفس، يا للسخرية والمهزلة.. حين يُراد للعاقل أن يصدّق بوجود.. ضحك أسود!.
Hasanhamid55@yahoo.com