من خطأ التصدير إلى خطأ الاستيراد.. هل تخلّينا عن زراعة القطن؟! ولمصلحة من؟!
لعلّ الكثير من المهتمّين بالقطاع الزراعي يستغربون تراجع إنتاج محصول القطن خلال السنوات الماضية، وتحديداً منذ عام 2012، وانتقال سورية من مصدّر إلى مستورد للقطن المحلوج، وبدأنا نسمع للمرة الأولى مطالب للصناعيين بضرورة تأمين المادة الأولية لصناعة الألبسة التي كانت تُصدّر كميات كبيرة منها للأسواق الخارجية بفعل جودتها وقدرتها على منافسة مثيلاتها!
وللمرة الأولى أيضاً بدأت أصوات الصناعيين تعلو وتحذّر من فقدان كليّ للأسواق الخارجية بعد غياب طويل للمنتج السوري لمصلحة بلدان أخرى.
الملفت ليس تراجع إنتاج محصول القطن السوري الذي كان مرغوباً بشدة في الأسواق العالمية لخلّوه من أي إضافات كيماوية، وإنما العجز عن إنتاج كميات كافية لتشغيل معامل نسيج القطاعين العام والخاص، وهذا ما يجعلنا نتساءل مع آلاف الصناعيين: هل تخلّت الحكومة نهائياً عن زراعة احتياجات سورية من القطن، كما فعلتها مع محاصيل أخرى كالقمح والبقوليات؟
فتش عن اقتصاد السوق
لا شكّ في أن الحرب الإرهابية على سورية دمّرت مساحات واسعة من الأراضي والمحاصيل الزراعية، ولكن إهمال القطاع الزراعي بدأ مبكراً جداً، وتحديداً مع بدايات نهج اقتصاد السوق الليبرالي، في عام 2006، والذي تخلّى عن دعم القطاعات الإنتاجية وركّز على دعم القطاعات الريعية، ما أسفر عن نتائج كارثية على البلاد والعباد لا يزال ملايين السوريين يعانون من آثارها التي أرخت بثقلها المدمر على حياتهم اليومية.
ولكي لا نبقى في العموميات، إليكم نتائج اقتصاد السوق على محصول القطن خلال سنوات ما قبل الحرب الإرهابية العالمية على سورية:
كانت المساحة المزروعة بمحصول القطن تبلغ 216 ألف هكتار في عام 2006، انخفضت إلى 193 ألف هكتار في عام 2007، فإلى 176 ألف هكتار عام 2008، فإلى 164 ألف هكتار عام 2009، ثم زادت المساحة قليلاً (بفعل تجاوزات الفلاحين) إلى 172 ألف هكتار عام 2010. وانخفض إنتاج القطن خلال هذه السنوات من 686 ألف طن، إلى 628 ألف طن، أسوة بانخفاض مماثل في جميع المحاصيل، وخاصة الحبوب والبقوليات والأعلاف.. إلخ.
وكان إنتاجنا من القطن خلال أعوام (1990- 2003) لا يقلّ عن 900 ألف طن، وتجاوز المليون في عامي 2000 و2001، قبل أن ينحدر باتجاه الأسفل خلال حكومة اقتصاد السوق (2003- 2010)!!
صحيح أن الانخفاض لم يكن كبيراً، وبقيت سورية تُصدّر كميات كبيرة من المحاصيل الزراعية، لكن مؤشرات تنفيذ اقتصاد السوق كانت تؤكد أن زمن نهج “الأولوية للزراعة” ولّى لمصلحة نهج “الاقتصاد الريعي”، بدليل تبخّر مخازين القمح الإستراتيجية والتي تجاوزت 5 ملايين طن في عام 2003 من الإنتاج المحلي لا المستورد!!
الأخطاء مستمرة..!
ومثلما أخطأت الحكومات المتعاقبة حتى عام 2010 بتصدير القطن كمادة خام دون أي قيمة مضافة، فإن الحكومة تخطئ الآن باستيراد الأقطان المحلوجة بدلاً من زراعة ما يكفي احتياجات الصناعة الوطنية منها دون تصديرها خاماً!
وما من حكومة سابقة منذ بداية تسعينيات القرن الماضي إلا وكانت تعرف حجم الخسائر الناجمة عن تصدير الأقطان دون أي قيم مضافة، فتصديرها محلوجة أفضل، وتصديرها غزولاً أفضل من المحلوجة، أما تصديرها كمنتج نهائي أي ألبسة جاهزة فيعني مصدرا مهمّا وكبيرا جداً من القطع الأجنبي، خاصة وأن الألبسة الجاهزة السورية اكتسبت شهرة في الكثير من الأسواق العالمية.
نعم، كلّ الجهات المعنية بالزراعة تعرف أننا لم نكن نصدّر قطناً خاماً وإنما نصدّر المياه النادرة والشحيحة، فالقطن أكبر محصول مستنزف للماء بالطرق التقليدية، وبالتالي فإن تصدير الماء أغلى من تصدير القطن، ومع ذلك لم تستجب الحكومات المتعاقبة للتركيز على دعم تصنيع القطن بدلاً من تصديره مادة أولية.
وكانت لدى بعض الحكومات السابقة مشاريع مهمّة في هذا السياق، كمشروع تصنيع ألبسة الجينز من نفايات القطن بدلاً من رميها في القمامة، لكن لم يبصر أي مشروع منها النور سوى معمل الغزول في اللاذقية، وكان إنتاجه يُصدّر بكامله، وخاصة إلى ألمانيا لأن الخطوط الإنتاجية الحديثة فيه كانت تنتج النمر المطابقة للمواصفات الأوروبية.
وتوقعنا أن تستفيد الحكومات المتعاقبة من هذه التجربة، فتقوم بتجديد الخطوط القديمة والمهترئة في معامل نسيج القطاع العام، لكن ما من حكومة فعلتها حتى الآن، وكان هناك إصرار على تصدير القطن الخام المستنزف للمياه دون أي قيم مضافة. أما الخطأ الجسيم الذي يمارس الآن فهو الامتناع عن زراعة كميات كافية من القطن لمصانع القطاعين العام والخاص بدلاً من استيراد الأقطان المحلوجة، فما من عاقل يمكن أن يُصدّق أن بلداً زراعياً كسورية تحوّل خلال فترة قياسية إلى مستورد للحبوب والأعلاف والأسمدة والأقطان.. إلخ!!
موقف مستغرب من المالية
وما يؤكد إهمال الحكومة، وتخليها عن محصول القطن، ليس الإحجام عن زراعة مساحة كافية، أو تأمين المستلزمات اللازمة لزيادة مردود الهكتار الواحد بما يغني عن استيراد أي كميات من القطن المحلوج فقط، وإنما رفض وزارة المالية تحويل ثمن أقطان الفلاحين أيضاً، وهذا ما كشفه رئيس الاتحاد المهني لعمال الغزل والنسيج محمد عزوز، وتحديداً بتاريخ 16 / 10/ 2023.
لقد ردّت وزارة المالية طلب القرض بقيمة 562 مليار ليرة الذي طلبته المؤسّسة العامة للأقطان لتسديد ثمن كميات الأقطان المستلمة من الفلاحين للموسم الحالي، والتي تقدّر بـ 56 ألف طن فقط، والذي بدأت عمليات توريد إنتاجه لمراكز الاستلام ومحالج الأقطان في المحافظات بدءاً من 1/ 10/ 2023.. ترى ما مبررات وزارة المالية لرفض القرض الذي سيخصّص لشراء الأقطان؟
نعرف أن رئيس الحكومة سيلزم وزير المالية بتحويل الأموال اللازمة لشراء أقطان الفلاحين القليلة، لكنها المرة الأولى التي لا ترصد فيها الاعتمادات لشراء محصول مهمّ للصناعة، وهذا مؤشر خطير إلى تخلي الحكومة عن القطن!
كان ردّ وزارة المالية غريباً ومستغرباً، فقد طلبت من مؤسسة الأقطان تخفيض قيمة القرض بما يتناسب مع التقديرات الحقيقية للاستلام، أيّ أن الوزارة توحي وكأنّها فوجئت بالكميات المقدّرة من قبل وزارة الزراعة، ورأت أنها كبيرة جداً، في حين تبدو الكمية هزيلة جداً مقارنة بتاريخ إنتاج القطن في سورية.
ومع أن الحكومة هي من رفعت سعر كيلو القطن من 4 آلاف ليرة إلى 10 آلاف لإنتاج تقديري بحدود 71 ألف طن، فإن وزارة المالية رفضت تحويل أي مبلغ حتى لكمية 56 ألف طن، وكما قلنا هذا مؤشر على تراجع أو تخلي الحكومة عن إنتاج حاجة سورية من القطن.
ترى.. ألم يسأل وزير المالية: من سيسدّد ثمن الأقطان للفلاحين؟ وهل هكذا نشجع على زيادة المساحة المزروعة بالأقطان؟
إن عدم شراء مؤسسة الأقطان لإنتاج الفلاحين يعني اضطرارها لاحقاً لشرائها من التجار بأسعار أعلى أو استيرادها بالقطع الأجنبي كي لا تتوقف معامل الغزل والنسيج عن الإنتاج.
كان يجب على وزارة الزراعة التوسّط لدى وزارة المالية لتشرح لها واقع الفلاحين الذين يعتمدون على استعادة قيمة الأقطان لتسديد الديون التي ترتبت عليهم بسبب عمليات الزراعة والبذور والأسمدة والمحروقات، وأجور القطاف وقيمة الشلول حيث أصبحت قيمة الشل الذي ارتفع من 12 ألفاً إلى 65 ألفاً، والأهم أن الأموال ضرورية للفلاحين للبدء في إعداد الأرض للموسم الشتوي.. إلخ.
الخلاصة..
بما أنه لم يسبق في تاريخ زراعة القطن أن تأخر تسديد قيمة الأقطان، فهل هذا يعني أن وزارة المالية تضغط على الفلاحين للتخلي عن زراعة القطن.. أم ماذا؟
علي عبود