“بريكس” ترتّب أوراقها وسط الفوضى
عناية ناصر
كانت الحرب التي شنّتها “إسرائيل” على غزة سبباً في زعزعة أركان السياسة العالمية، ليس فقط بسبب وحشيتها التي لا توصف، بل أيضاً لأن هذه الحرب عملت على تجسيد التحالفات الجيوسياسية على طول الخط المؤيد أو المعارض لـ”إسرائيل”، وهو بالتالي ما يترجم أيضاً بشكل مباشر إلى مواقف مؤيّدة أو مناهضة للولايات المتحدة. وقد خلقت هذه التحالفات الجيوسياسية إمكانية إعادة التنظيم، بما في ذلك إصلاح الكتل القائمة. وتشير قمة “بريكس” الاستثنائية التي عقدت في الأسبوع الثالث من شهر تشرين الثاني إلى هذا الاحتمال بوضوح شديد. لقد كشفت وقائع القمّة من ناحية عن المواقف المؤيدة أو المناهضة للولايات المتحدة و”إسرائيل” داخل الكتلة. ومن ناحية أخرى، كشفت القمة عن انفتاح الكتلة على توسيع نفسها بطرق تشمل المزيد من العناصر المعادية لـ”إسرائيل”، مثل باكستان، التي تقدّمت رسمياً بطلب للحصول على عضوية مجموعة بريكس.
وبخلاف روسيا والصين، اللتين دعتا إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة، تجنّبت بعض الدول المتحالفة مع “إسرائيل” والولايات المتحدة، انتقاد “إسرائيل”. وفي حين أشارت الصين وروسيا إلى الحرب الإسرائيلية على غزة باعتبارها “عقاباً جماعياً” للشعب الفلسطيني، وصف بعضهم حرب “إسرائيل” على غزة بأنها “صراع بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية في غزة”. هذا الاختلاف لا يقتصر على الدلالات فقط، وإنما يوضح كيف ينظر أعضاء مجموعة بريكس إلى الصراع بشكل مختلف، أي باعتباره حرباً تشنّها “إسرائيل” على شعب فلسطين أو باعتباره نتيجة “إرهاب” المقاومة الفلسطينية فقط. وبسبب هذه الخلافات، لم يتمكّن اجتماع بريكس من الاتفاق على بيان مشترك.
لكن رغم الخلافات لا تزال القمة تحمل الكثير من الأهمية. إن حقيقة عقد جلسة استثنائية حول قضية جيوسياسية لا تهمّ، على الأقل بشكل مباشر، أيّاً من الدول الأعضاء، تعني أن الكتلة تخرج تدريجياً من آفاقها الاقتصادية في المقام الأول للتدخل، دبلوماسياً، في الصراعات الجيوسياسية. وبهذا المعنى، تعمل مجموعة بريكس على إعادة ترتيب أوراقها لتصبح منصّة قادرة على المساعدة في التوسط في المواقف العالمية المعقدة مثل قضية فلسطين.
في الواقع، كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يدفع باتجاه نظام عالمي جديد بديل متعدّد الأقطاب، يفضّل بشكل لا لُبس فيه فكرة أن تلعب “دول بريكس وبلدان المنطقة” دوراً رئيسياً، لإيجاد “حل سياسي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي”.
ويمثل موقف روسيا، الذي وافقه عليه الرئيس الصيني شي جين بينغ أيضاً، الرأي السائد على نطاق واسع، على الأقل في الجنوب العالمي. وهذا يعني أنه من خلال إعادة ترتيب أوراقها من الناحية الجيوسياسية، تجعل “بريكس” نفسها في الواقع خياراً مناسباً لدول الجنوب العالمي للانضمام إليها. هذا بالإضافة إلى أن العديد من الدول ، بما في ذلك السعودية والإمارات العربية المتحدة، تتطلع بالفعل إلى الانضمام إلى الكتلة. لكن الحقيقة أن مجموعة بريكس تدفع باتجاه تعدّدية قطبية اقتصادية وسياسية تسمح لدول الجنوب العالمي برؤية ذلك باعتباره مظهراً للنظام العالمي البديل بعيداً عن الغرب.
وبقدر أهمية هذا التوسّع على المستوى العالمي، فإنه مهم كذلك لمجموعة بريكس نفسها أيضاً، وإذا أمكن إدراج المزيد من الأصوات المناهضة للولايات المتحدة في الكتلة، فسوف يؤدّي ذلك تلقائياً إلى تهميش الدول التي تسعى إلى اللعب على جانبي رقعة الشطرنج الجيوسياسية. ومن الأمثلة المهمة على تحرّكات المجموعة في هذا الصدد جهود باكستان للانضمام إلى الكتلة. ورغم أن باكستان يُنظَر إليها عموماً باعتبارها دولة مؤيّدة للولايات المتحدة، وتواجه حالياً أزمة اقتصادية حادة، إلا أن إسلام أباد لا تزال تتمسك بموقف قوي للغاية مؤيّد لفلسطين. لكن احتمال ضمّ إسلام أباد إلى المجموعة لا يرتبط فقط بموقفها المؤيّد لفلسطين، بل هناك عاملان آخران على الأقل. أوّلاً، ظلت باكستان حليفاً للصين منذ ما يقرب من 60 عاماً، وباعتبار الصين أحد الأعضاء البارزين في المجموعة، فإن باكستان ستستفيد من الكتلة وتستخدمها للدفع نحو عالم بديل متعدّد الأقطاب. وباعتبارها دولة لم تتلقّ الكثير من المكاسب من التحالف مع الولايات المتحدة، فإن التعدّدية القطبية تعمل لمصلحتها، لأنها تخلق الفرص لها لجذب الدعم، الدبلوماسي والمالي، من موارد متعدّدة لدعم موقفها الإقليمي والعالمي.
ليست باكستان الدولة الوحيدة التي تدفع إلى توسيع مجموعة بريكس، حيث ستستفيد الصين أيضاً من توسّع “بريكس” لأنه يساعدها على معالجة مساعي واشنطن لفك الارتباط عن الصين، وعزلها في نهاية المطاف. على سبيل المثال، تعدّ الصين أحد الأعضاء المؤسّسين للكتلة، كما أنها أيضاً دولة داخل الكتلة تتمتع بعلاقات اقتصادية قوية مع جميع الأعضاء تقريباً، سواء الداخلين الحاليين أم الجدد، أي السعودية وإيران.
وباكستان أيضاً، إذا أصبحت عضواَ كامل العضوية، دولة تتمتع بعلاقات اقتصادية قوية جداً مع بكين. لذلك، بالنسبة لبكين، توسّع “بريكس” يخدم بشكل مباشر مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية العالمية كمنصة عالمية بديلة. وقد ظهرت حيوية هذا البرنامج البديل من خلال المواقف تجاه العدوان الإسرائيلي المستمر على غزة في القمّة الأخيرة. والآن، أصبح لهذا الدفع هدف جيوسياسي واضح، ويأتي ذلك في وقت انهارت فيه بالفعل سياسة الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط “الجديد”، وكذلك فشلها في تحقيق الاعتراف بـ”إسرائيل” ودفعها إلى حل القضية الفلسطينية بشكل مباشر في الأزمة الحالية.
بعبارة أخرى، يشكّل فشل الولايات المتحدة في إحلال السلام في الشرق الأوسط فرصة للدول المنافسة لواشنطن لتقديم نفسها باعتبارها من أنصار السلام، وهو الأمر الذي أكده بوتين وشي بشكل لا لُبس فيه في تصريحاتهما. والأمر الأكثر أهمية هو أنه عندما بدأ وفد من الدول العربية والإسلامية زيارة كل الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، كانت محطته الأولى الصين، وليس الولايات المتحدة، وكان الخيار الثاني هو روسيا. ورغم أن هذه الزيارة ربما لا تحمل سوى أهمية رمزية لحل الحرب الإسرائيلية على غزة، فإن العالم العربي ما زال يبعث برسالة واضحة إلى الغرب بشأن خياراته الجيوسياسية. وبالنسبة لأعضاء مجموعة بريكس، وخاصة روسيا والصين، فإن هذا الاختيار يعكس نجاح جهودهما الرامية إلى إنشاء نظام عالمي بديل جديد يقع بعيداً عن الغرب، كما يرسل هذا الاختيار أيضاً رسالة إلى أعضاء مجموعة بريكس الذين ما زالوا غير قادرين على قطع ارتباطاتهم بواشنطن.