ناس ومطارح.. بسام البيطار.. فنان الجبال والقمم بركان العتابا
تمّام بركات
على الطريق المتعرج والمنحدر بشدة من القرداحة نحو قرية “بكراما”، كانت السيارة تتجاوز المنعطفات، بشيء من الجموح، حتى أن العجلات الخلفية، علقت عدة مرات على أطراف المنحدرات الخطرة، إلا أن هذا الخطر، لم يؤثر على المعنويات العالية لركاب السيارة الأربعة، فثمة صوت عذب وقوي يهدر بـ “الأوف” فتقف القلوب على نياطها، ثم يتلوها بالميجانا قائلاً: “الليلة لنا، وبيجوز بكرة مالنا”، فتترنح المشاعر تحت وطأة هذه “الوجودية” الصافية، التي تتضمنها العبارة، ويتابع كنبع: “سهامك يا زمن ما قدرت صدا، ورنينا بمسمع الصوان صدى، أنا دمعي على الوجنات صدى، قدر ما طوّلو عليه الغياب”. تتخلص العجلة الخلفية من المنحدر الذي علقت به، ثم تنطلق السيارة وصوت بسام البيطار (القرداحة 1971) يخرج من نوافذها، فتردده جدران الوادي وصخوره، كما لو أنها ترد البيت بالبيت، والمعنى بالدلالة، والإحساس بأجنحة لطيران القلوب وخفقانها.
ومن خلف تلة خضراء ندية، راحت تظهر معالم بيته المتهادي في “موشة بكراما”، قبل أن يصبح الطريق مستوياً إليه تماماً، وكأنه يقصد البيت معنا، بل ويسبقنا ليتربع تحت شجرة “الزنزلخت” العتيقة، وهي تفرد ظلها على ساحة البيت؛ ومن خلف واحد من شعابها الكثيفة، وصل صوت شجي قبل صاحبه، يرحب بالضيوف: “أهلا حبايب”، قبل أن يظهر وجهه مبتسماً، بينما عيناه تضحكان وربما تغنيان.
في تسعينيات القرن الماضي، سيظهر على ساحة الغناء الشعبي، في الساحل السوري، صوت قوي وواثق، يؤدي ببراعة وقوة واحداً من أصعب أنواع الشعر “العتابا”، وسيبهر خلال فترة قصيرة عشاق هذا الفن، الذين وجدوا في صوته وأدائه، استمراراً لسلطان فن العتابا، فؤاد غازي، خصوصاً وأن غازي كان قد غاب عن المشهد الفني، لأسباب صحية. حينها، كان البيطار في الخامسة والعشرين من عمره، صاحب طلة جميلة، وحضور واثق؛ والأهم أن أداءه المميز للعتابا أعطاه “غرين غارد” يدخل بها قلوب من يستمع إليه.. وهكذا بدأت رحلته مع الغناء الشعبي، وقدم فيه، خلال مسيرة 20 عاماً، فناً راقياً، ممتعاً، بسيطاً، جعله الرقم الأصعب في ساحة الغناء الشعبي، حتى أن الفنانين الذين ظهروا بعده، مثل وفيق حبيب وعلي الديك، كانوا يحاولون تقليد أسلوبه في الغناء، ومنهم من نجح نجاحاً باهراً، بسبب أغنية غناها بسام البيطار، وقلده فيها تأديتها، فالرجل كان قد خطّ طريقاً خاصاً به في عالم الفن الشعبي الواسع، وصار صاحب مدرسة في الأداء، بل وحكماً، في ليالي الأنس، على الأصوات التي قصده أصحابها لتقييمها، وإعطائهم النصح في هذا المجال.
غنى البيطار للعديد من شعراء المحكية الشعبية، قبل أن يؤسس والشاعر أحمد شحادة، فرقة خاصة تضمنت الفنان ثائر العلي، عازف العود، والفنان ماهر العلي، عازف الناي؛ وكانت النتيجة مبهرة فعلاً، وجديدة كلياً على هذا الفن. ومن بيت الشاعر شحادة، الواقع في قرية “بكراما”، خرجت أجمل الأغاني وأعذب أبيات العتابا التي غناها، ومنها ألبوم “بحرك يا زمان”، وفيه يغني: “ل هجر دار خلاني ورحلن، علي وصل ديارن ورحلن، يا جاني لون ع غيابك وراح لون، السواد وشاب شعري من المصاب”
لا تعرف “الويكيبيديا” أي معلومات عن بسام البيطار، الفنان الذي كان يصدح صوته من كل مكان في جبلة والقرداحة. ركاب سرافيس كراج جبلة القديم وريف جبلة، ركاب سرافيس القرداحة وريفها، ركاب سرافيس ريف اللاذقية، كانوا على موعد يومي مع أحدث إصدارات بسام الغنائية. ولسوف تكون تجربة مذهلة لمن يستمع إلى “مخاصمتيني،” أو “لا تسألوني ليش دمعي جاري”، بينما المناظر الطبيعية المبهرة، تتوالى أمام نظراته، حتى يشعر أن ثمة وحدة عضوية بين صوت المغني، وأشجار الدلب والصفصاف والتين والزيتون وشجر الديس، بين الصوت والصخور البيضاء الخارجة من رحم الجبل، كأنما تمد أذانها لتستمع.
بسام البيطار الفنان الذي لم يسع خلف الشهرة، ولم تعنه الأضواء، ظل محافظاً على علاقته المباشرة بالناس، يلبي من يطلبه بغض النظر عن موضوع “الأجر”، يغني في الأفراح والأتراح أيضاً، لم تشغل باله غرف الفنادق الفارهة، ولا داعبت خياله مرابع يدفع روادها بالقطع الأجنبي؛ ولسوف يكون في قمة سروره، وهو يغني في “قعدة” بين الأصدقاء، كتلك التي جمعته بهم تحت ظلال الأشجار المحيطة بمنطقة “الشيخ مقبل – قرية السلاطة”، لا يحب “الفيديو كليب”، ولا يتمايل مع “الموديل” التي تؤدي أمامه، حتى لكأنها غير موجودة، بل كان يغني برجولة، كما يليق بفن العتابا على أصوله.
تم تكريم الفنان بسام البيطار، عام 2019، في لفتة متأخرة من وزارة الثقافة، نحو أساطين هذا الفن. وفي العاشر من أيلول 2021، تبارى بسام مع الموت في جدلية “عتابا” مؤثرة غنى فيها: “حزني يا جبال ع غيابن ودلي، بيوم ال راح عم بصرخ ودلي، أنا تارك قهوتي وهيلي، ودلي، وهاجر خيمتي وكل الصحاب”؛ ثم أغلق عينيه على 50 عاماً عاشها هذا الرجل في ربوع بلاده، لم يغادرها رغم العروض التي قدمت له للسفر والغناء في الخارج، وفي أرضه التي شهدت أول أنفاسه ونظراته وعبراته. غفا بسام البيطار، ولا زال صوته عالياً يتردد في الجبال: “سألتا وين راح الولف و دار/ أجابت بيه لف الزمن و دار، بدت تسقط تلوج شباط و دار/ وأنا ناطر وليفي ع البواب”.