“سيزان”: أرى زجاجة فأرسم أسطوانة
هويدا محمد مصطفى
في عام 1874 اشترك الفنان الفرنسي “بول سيزان” بمعرض المرفوضين في باريس، بلوحات عدة من ضمنها “أولمبيا الجديدة” و”منظر في أوفير”، وأقيم المعرض حينها في استوديو المصور الفرنسي “نادار”، إلى جانب ثلاثين فناناً رفض الصالون الرسمي قبول عرض أعمالهم، من بينهم “كلود مونيه” و”رينوار” و”بيسارو” و”سيسلي”، الذين أصبحوا فيما بعد قادة المدرسة الانطباعية في الرسم، محققين بذلك العبارة القائلة: “الحجر الذي رفضه البناؤون كان دائماً حجر الأساس”، ولقد أخذت المدرسة اسمها من لوحة “كلود مونيه” التي حملت عنوان “انطباع شروق الشمس”، كما عدّ “مونيه” فيما بعد زعيم المدرسة الانطباعية في الرسم، وفي تلك المرحلة كان “سيزان” يظهر اهتماماً بالمنظور الضوئي الانطباعي، الذي كان سائداً في اتجاهات المدرسة الباريسية، وأخذ يدرس تأثيرات النور والظل على الأشياء ويرسم في الهواء الطلق، بألوان مباشرة ومن دون تخطيط مسبق.
بعد ذلك بدأ “سيزان” يعطي المتانة في لوحاته للانطباعية، وشيئاً فشيئاً انقلب عليها حين أصبح يبحث في تشكيلاته الهندسية عن جوهر الأشياء، بدلاً من ظاهرها، كما أوضح “كلود مونيه” في بيانه “قانون التباين اللحظي”.
والمعروف عن “بول سيزان” أنه لم يعرف الشهرة إلا بعد رحيله عام 1906، وعلى الرغم من أنّه مهّد الطريق أمام “بيكاسو” و”براك”، وعُدّ حتى هذه الساعة الأب الطبيعي لكل المدارس الفنية الحديثة، وأكثر المساهمين بانطلاقه الاتجاه التكعيبي في مدرسة باريس أوائل القرن العشرين.
وبالعودة إلى ولادته وبداياته، هو من مواليد مدينة “أكس” الفرنسية القريبة من الحدود الإيطالية، كان والده أرستقراطياً، وجّهه بعد أن حصل على شهادة الدراسة الثانوية في العام 1859 إلى دراسة القانون ليخلفه في إدارة البنك الذي كان يملكه، وهكذا دخل كلية الحقوق بناءً على رغبة والده، لكنه ما لبث أن تركها إلى باريس في العام 1861 وبدأ يتردّد على الأكاديمية السويسرية للفنون الجميلة، ويستعد لدخول محترفاتها، إلا أنه سرعان ما عاد إلى “أكس” خائباً بعد أن رسب في امتحانات القبول في أكاديمية الفنون الجميلة.
وفي عام 1862 عاد إلى باريس وأصبح يتردّد على الأكاديمية السويسرية التي عرّفته على عدد كبير من الفنانين من أمثال “بيسارو” و”باتريك” و”مونيه” و”سيسلي” و”رينوار” وغيرهم، وبعد أن انقلب على تعاليم زعيم الانطباعية “كلود مونيه”، بدأت لوحات “بول سيزان” تثير موجات عارمة من السخط حتى أن “لويس ليروا” ناقد جريدة “شاريفاري” قال عنه إنه أسوأ فنان، وذلك لخروجه عن الأنماط المألوفة نحو أسلوب هندسي خاص مهّد الطريق فيما بعد لظهور التكعيبية على يدي “بابلو بيكاسو” و”جورج براك”.
كان “سيزان” يؤمن دائماً بضرورة وجود لطخات لونية في لوحته، مستقلة عن اللون الطبيعي الموجود في الواقع، لذلك كان يضع ألوانه على اللوحة بجرأة لم تكن مألوفة، فالتفاحة على سبيل المثال في لوحاته تبدو صلبة لها وجود مادي مستقل عن رؤيتنا، وهذا الإيمان الراسخ شجعه على العمل والرسم على الرغم من سخرية النقاد والناس من لوحاته، وهكذا بدأ يتجه في لوحاته نحو تأليف هندسي، باحثاً من خلاله على جوهر الأشياء بدلاً من إكمال تجربته الانطباعية، التي لا تعترف إلا بما هو مرئي للعين، حيث كان يقوم بتحليل الأشكال الصامتة وعناصر الطبيعة والأشياء ضمن تأليف يتبع إيقاع تكوين المكعبات والأسطوانات والدوائر، ولهذا كان يقول: “أرى زجاجة فأرسم أسطوانة”، وبذلك حقق الفن الفرنسي من خلال لوحاته خطواته الأولى نحو التكعيبية.