صحوة كبرى للجنوب الأوراسي.. وعالم متعدّد الأقطاب
هيفاء علي
بينما يغوص العالم بشكل أعمق في هذا القرن الحادي والعشرين الغامض والمثير للقلق، فإن جزءاً معيناً من البشرية هو الفريسة المعتادة والدائمة للأنظمة الغربية. لقد تم تصميم السيطرة بدقة بحيث يعيش الضحايا في “ديكتاتورية بلا دموع”، ويُنظر إلى معذّبيهم على أنهم المحسنون لهم، وحيث يكون الضحايا أنفسهم غير قادرين على التطلع إلى عالم آخر غير العالم المفروض عليهم. وبما أن السلطة تتميز دائماً بإملاء المعاني والسرديات عن الواقع، أو بالأحرى بتشويه الواقع وفقاً لمصالحه وأهدافه، فقد تبيّن أن هذا الجزء من البشرية اليوم، في القرن الحادي والعشرين، يعاني دون وعي من تنافر معرفي عميق حول نفسه وما يحيط به. هذه هي الطريقة في هذا الجزء المعيّن من العالم، الذي يسمّى الغرب، والذي يتكوّن أساساً من أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، حيث تهيمن على المناطق مصالح العالم الأنغلوسكسوني بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص.
إن سرطان الليبرالية، خلال فترة وجودها القصيرة جداً في إطار حداثتها الفلسفية الغربية، قد ابتلع كل أفكار التعالي، إلى درجة أن الإنسان الغربي يجد نفسه اليوم في أزمة وجودية عميقة، دون أي بوصلة في متاهة الرغبات غير المحدودة التي توفرها ما بعد الحداثة النيوليبرالية، حيث العملة الوحيدة والبديل الوحيد في الوقت نفسه هو الاستهلاك المقدس. وفي هذا الجزء من العالم فقط يجد المرء مقترحاتٍ غريبة ومنحرفة تتحوّل إلى برامج سياسية. هذه الافتراضات ليست سوى مشتقات من عملية الهندسة الاجتماعية الليبرالية التي عاشها الإنسان الغربي، وقد أدان “كارل شميت” آنذاك، وهو أهم الفلاسفة الألمان وأكثرهم إشكالية، ولادة مثل هذا النظام الفوضوي للأشياء. لذلك فإن الليبرالية الجوهرية هي التي تحمل الأنوموس (الأنوميا)، أي “ظهور الشر على الأرض، والتقليل من الخير والشر”، وإنشاء “حكومة شيطانية”، أي إمبراطورية الشر من خلال القتل الرحيم، والإجهاض، والأيديولوجية الجنسانية، وتحرير تعاطي المخدرات، وتفكّك الأسرة.
باختصار، إنها دكتاتورية النسبية، ومذهب المتعة، والعدمية، والتقليل من قيمة الشر، والتقليل من قيمة الخير. “هذا هو ما يتكوّن منه شر العصر الراهن، الذي يرفض فيلق مثقفي ما بعد الحداثة الاعتراف به.
والسؤال الذي يكمن وراء هذه الصورة المظلمة للإنسانية التي تقوّضت أسسها الأنثروبولوجية هو: كيف وصل الغربي إلى هذا الوضع المؤسف؟ والإجابة بدهية، لأن الليبرالية هي عدو كل سلطة، وقد عرفها الغرب واختبرها مبكراً جداً، في فجر الحداثة الديكارتية للفكر “نسبة إلى العالم والفيلسوف ديكارت”.
ومن أبسط القوانين البيولوجية، أن أيديولوجية النوع الاجتماعي منحرفة وسخيفة للغاية، وهي تتصور وجود أكثر من مائة جنس يمكن للفرد الوصول إليه، بما في ذلك الأنواع الحيوانية الأخرى، وكل هذا تحت حماية وتعزيز الأمم المتحدة. وبالمثل، لا يمكن تجاهل أن أيديولوجية النوع الاجتماعي، المدمّرة بشكل واضح للجنس البشري، ليست سوى الانحطاط الضروري للغاية الذي يفتح الباب أمام السيطرة المطلقة على الإنسان، أي إعادة الإنتاج التكنولوجي وما بعد الإنسانية، حيث الأول يؤكد أن الإنسانية لن تولد بعد الآن، بل سيتم إنتاجها في المختبرات، والثاني، أن الإنسان قادر على تجاوز حدوده البيولوجية بفضل التكنولوجيا، ويتجاوز الإنسان، ويكون أسرع وأقوى وأكثر ذكاءً، بما في ذلك “العاطفية”، والعلاقات بين الآلات والبشر. وهي، كما يقول أحد المفكّرين الغربيين: “إن الأمر لا يتعلق بإضفاء الطابع الآلي على الإنسان، بل يتعلق بإضفاء الطابع الإنساني على الروبوت، وبالتالي فإن هذه هي نهاية البشرية”.
وحسب عالم السياسة الإسباني الكبير “دالماسيو نيغرو بافون”، وهو ليبرالي بارز، فإن الغرب أصبح في قبضة “الشمولية الليبرالية”، ويتفق مع البروفيسور د.ألكسندر دوغين، حيث المعيار الوحيد الممكن هو إرضاء الإرادة المتقلبة للفرد المقتلع من خلال سوق ذات عروض غريبة الأطوار بشكل متزايد: الإجهاض باعتباره “حقاً من حقوق الإنسان”، والقتل الرحيم باعتباره “موتاً كريماً”، والتشويه باعتباره “إعادة تحديد الجنس”، وشراء وبيع الأطفال حديثي الولادة بـ”تأجير الأرحام”، الذي تم الترويج له في فترة ما بعد الحداثة من خلال “دول الرفاهية” الضعيفة بشكل متزايد، ما يولّد نوعاً من العزلة الاجتماعية، حيث يتم تدمير المؤسسات الأساسية مثل الأسرة التقليدية باسم الفردية الأكثر فتكاً.
ومع ذلك، كما أعلن كارل شميت، “سيكون العالم دائماً أكبر من الولايات المتحدة”، وفي الواقع، هناك اليوم شهود متميّزون على الصحوة العظيمة لشعوب الجنوب العالمي المهملة تاريخياً، التي، بوتيرة واسعة النطاق غير مسبوقة، تتولّد عن ديناميات العالم المتعدّد الأقطاب الذي يقع مركزه في المثلث الاستراتيجي الأوراسي، روسيا، الهند، الصين، حيث تزدهر اليوم حقائق جيوسياسية جديدة، وأصبحت إعادة تأهيل المساحات الحضارية الكبيرة أكثر أهمية، كما أن عودة التاريخ الثقافي الذي يعود إلى آلاف السنين، مع تقاليده ومعتقداته، هي اليوم معيار الصحوة الكبرى للأغلبية العالمية المتجمعة حول مجموعة بريكس، ضدّ التوحيد المنحط لأساليب الحياة والتفكير في العالم الأطلسي الأحادي القطب المتدهور.
وعليه، يشهد العالم اليوم ظهور نظام دولي جديد، لا تسترشد ديناميكيته بالنظام الدولي القائم على “القواعد” المجرّد الذي يفرضه الغرب الجماعي بطريقة شمولية على بقية العالم، بل يعتمد على ديناميكيات العالم المتعدّد الأقطاب، وهذا دليل قاطع على أن الهيمنة الأنغلو-أمريكية الأحادية القطبية قد انكسرت إلى الأبد، ولهذا السبب تتزايد المخاطر التي تهدّد الأمن الدولي في القرن الحادي والعشرين، لأنه كما علمنا التاريخ، فإن أي تغيير في النظام الدولي يحدث وسط اضطرابات ومحن كبيرة تشكّل تهديداتٍ استراتيجية لتعدّدية الأقطاب الناشئة.