استهداف الصحفيين.. حربٌ على الحقيقة
د.معن منيف سليمان
يواصل الجيش الإسرائيلي، استهداف الصحفيين وعائلاتهم ومنازلهم ومقرّاتهم الإعلامية في قطاع غزّة منذ السابع من تشرين الأول الماضي، في إطار حربه على الحقيقة ومنع وسائل الإعلام من نشر ما يحدث على الأرض من وقائع تدين وحشيته، على الرغم من أن الاستهداف المتعمّد للصحفيين والمدنيين يعدّ جريمة حرب بموجب القانون الإنساني الدولي. ولا شك أن دعم الولايات المتحدة الثابت أدّى باستمرار إلى إفلات “إسرائيل” من العقاب.
اتجهت “إسرائيل” إلى استهداف الصحفيين مع بدء هجماتها على قطاع غزّة ولبنان في السابع من تشرين الأول الماضي. ووفقاً لآخر حصيلة نشرتها نقابة الصحفيين الفلسطينيين قبل الهدنة في غزّة، استُشهد 70 صحفياً وعاملاً في مجال الإعلام منذ انطلاق الحرب الدموية التي شنَّها الاحتلال في السابع من تشرين الأول الماضي.
من جهته، وثَّق المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان استشهاد أكثر من 60 صحفياً حتى 19 تشرين الثاني، وهو ما يجعل هذه المدّة القصيرة الأكثر دموية بالنسبة للصحفيين منذ عام 1992، إذ لم يتجاوز عدد الصحفيين الفلسطينيين الذين وثَّقت لجنة حماية الصحفيين مقتلهم على مدار عقد كامل منذ 1992 حتى أيار 2022 نصف هذا العدد.
ويعدّ هذا العدد أكبر من عدد الصحفيين الذين قتلوا في العراق، أو أفغانستان، أو اليمن، أو أوكرانيا، حيث قتل منذ بدء الحرب في أوكرانيا 11 صحفياً، سبعة منهم قتلوا خلال الشهر الأول. ويتجاوز عدد الصحفيين الذين قتلوا في الحرب على غزّة في أسبوعين عدد الصحفيين الذين قتلوا في الأيام العشرين الأولى من الحرب في العراق عام 2003، وكذلك يفوق عدد الصحفيين الذين قتلوا في أفغانستان عام 2001، في أعقاب أحداث 11 أيلول مباشرة.
لقد آثر الصحفيون على أنفسهم نقل الحقيقة وكشف جرائم الإبادة الجماعية التي تنفّذها قوّات الاحتلال الصهيوني في قطاع غزّة، خلافاً للرواية الصهيونية التي تبنّتها الدول الغربية، وهو ما دفع القوات الإسرائيلية إلى تعمّد استهداف الصحفيين وترويعهم لثنيهم عن القيام بواجبهم في إطار تغييب الرواية الفلسطينية، عبر قصف منازلهم وقتل عائلاتهم واعتقالهم أحياناً، بهدف طمس واقع ما يحدث على الأرض ومنع وسائل الإعلام من نشر الحقيقة.
ولا تقتصر الاعتداءات الإسرائيلية على الصحفيين في الميدان، بل تمتدّ إلى قصف أفراد عائلاتهم في المنازل، واتسعت قائمة الجرائم لتشمل على سبيل المثال لا الحصر استهداف منزل محمد أبو حطب، مراسل التلفزيون الفلسطيني، ليستشهد مع 11 فرداً من أسرته. وهناك أيضاً استشهاد الصحفي في “وكالة وفا” محمد أبو حصيرة مع أكثر من أربعين فرداً من أفراد عائلته، وإصابة زميله محمد حمودة في قصف استهدف منزليهما.
وفي هذا الصدد علَّق محرّر الشؤون الفلسطينية في القناة 13 الإسرائيلية “تسفي يحزقيلي” قائلاً: إن عائلة أحد المراسلين في قطاع غزّة كانت هدفاً لقصف جيش الاحتلال، مؤكّداً أن قوات الجيش تعرف ما تضربه بالضبط.
ومن خلال خطة استهداف القوات الإسرائيلية الصحفيين تتعمّد أيضاً قصف المؤسسات الإعلامية، فقد قصفت أكثر من خمسين مقرّاً إعلامياً أجنبياً ومحليّاً داخل قطاع غزّة، من بينها مكاتب صحيفة الأيام وإذاعة غزّة، ووكالة شهاب للأنباء، ووكالة معا الفلسطينية، ومكتب قناة برس تي في وقناة العالم الإيرانيتين، ومكتب الوكالة الفرنسية كلياً أو جزئياً.
كذلك تعرّض الصحفيون لحالات الاعتقال والرقابة على يد السلطات الإسرائيلية خلال العدوان على غزّة، حيث شهدت الضفة الغربية موجة واسعة من الاعتقالات والمضايقات التي طالت عشرات الصحفيين الفلسطينيين، ولم يسلم من هذه الاعتقالات حتى الصحفيون الإسرائيليون الذين طرحوا الرواية البديلة للرواية الإسرائيلية، واقتحمت السلطات الإسرائيلية عدداً من المطابع في مدينة الخليل وصادرت محتوياتها وأغلقتها.
وفي هذا السياق، أعلن اتحاد الصحفيين الفلسطينيين، في بيان يوم 28 تشرين الثاني، عن اعتقال 41 صحفياً منذ السابع من تشرين الأول الماضي، ولم يطلق سراح سوى 12 منهم لاحقاً بعد مدد اعتقال مختلفة، وحسب الاتحاد، فإن 44 صحفياً فلسطينياً يقبعون في السجون الإسرائيلية.
هذا الاستهداف المتعمّد من الجيش والسلطات الإسرائيلية للصحفيين دفع منظّمة مراسلين بلا حدود، في مطلع تشرين الثاني المنصرم، إلى التقدّم بطلب لدى المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في جرائم الحرب المرتكبة ضدّ الصحفيين. وعدّت المنظّمة أن حجم الجرائم التي تستهدف الصحفيين وخطورتها وطبيعتها المتكرّرة تندرج في نطاق جرائم الحرب، وتستدعي إجراء تحقيق من المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية.
ولا شك أن دعم الولايات المتحدة الثابت أدّى باستمرار إلى إفلات “إسرائيل” من العقاب، فضلاً عن أن هذا يصنّف “إسرائيل” كمارقة لا تحترم القانون الدولي، فإنه أيضاً يقوّض صدقية الولايات المتحدة وحليفاتها في أوروبا فيما يتعلّق بحماية حقوق الإنسان، ودعم حرية الصحافة وما تدعيه من قيم الديمقراطية التي تطبّقها على من تشاء وتغض النظر فيها عمّن تشاء.
والأخطر فيما يتعلّق بمنطقة الشرق الأوسط، بما فيها “إسرائيل”، التي تعاني من أكثر المعدلات انخفاضاً فيما يتعلق بالحريات وحقوق الإنسان، أن سلوك الولايات المتحدة الداعم بلا حدود وبلا خطوط حمراء لـ”إسرائيل” سيشجّع أكثر حكومات المنطقة الأخرى على فرض قيود على الحريات العامة ومعاقبة الصحفيين على أدائهم عملهم، وستزيد فيها معدلات انتهاك حقوق الإنسان بالاستناد إلى قوة علاقاتها وارتباط مصالحها بالولايات المتحدة التي ستوفّر لها الدعم أو حتى غض النظر لتفلت من المحاسبة والعقاب.
هذا الموقف لا يهدّد بتدهور وضع حريات التعبير والصحافة وحقوق الإنسان في المنطقة فقط، بل إنه يهدّد أيضاً أمن الولايات المتحدة ومصالحها في الخارج والداخل، إذ يشكّل دعم “إسرائيل” المطلق دليلاً مؤكّداً على أن سياسات الولايات المتحدة في المنطقة مرتبطة بالمصالح المباشرة وليس بالقيم ولا المصالح الاستراتيجية.