نمو التطرّف الصهيو-أمريكي يقرّب الساحات
بشار محي الدين المحمد
على مرّ العصور بقيت منطقة البحر الأحمر محلاً لنزاعات بين القوى العالمية الكبرى لما لها من أهمية جيواستراتيجية، ما سبّب ضمنها صراعاتٍ متواصلة تستمرّ حتى يومنا هذا ولكن بأشكال متعدّدة ومختلفة.
وأمريكا الآن تجمع حشودها وحشود من لفّ لفيفها في المنطقة بالتزامن مع العدوان الإسرائيلي الفاشي على قطاع غزة، ظناً منها أن من يسيطر على هذه المنطقة مع غيرها من المضائق والممرات البحرية سيسيطر على العالم وسيستمر في نهب خيرات شعوبه إلى ما لا نهاية، وفق عقليات القرصنة وما هو أقدم من سلوكيات الاستعمار القديم، حيث عملت مع شركائها ومنذ تفكّك الاتحاد السوفييتي على تكثيف حضورها في هذه المنطقة بشكل مبالغ فيه، ولا يتناسب مع أي من الذرائع التي أطلقوها خلال وضع قواعدهم أو إحضار بوارجهم الحربية، كإدخال أساطيل لـ”حماية قوافل المساعدات إلى جيبوتي” أو تحريك جزء كبير من قوات “الناتو” وتمركزها في المنطقة خارج مياه بلادها الإقليمية لـ”مكافحة القرصنة”، أو مكافحة الإرهاب أو الجريمة المنظمة وغيرها من الذرائع الجاهزة لخلق مناطق نفوذ الغرب خارج أراضي بلاده.
ممّا لا شكّ فيه أنه لا غرض لتلك الحشود المتزايدة والمتفاقمة سوى الغرض السياسي، واستكمال المشروع الاستعماري في السيطرة على أهم المضائق البحرية كهرمز وباب المندب وقناة السويس، ومؤخراً لتطويق الوجود الروسي والصيني في المنطقة، فالغرب لا يريد مشاريع تنموية وطرقاً استراتيجية تسبّب القوة وتعدّد الخيارات والتنمية المستدامة لشعوب المنطقة، كما لا يرغب بوجود قوات مهما قل عددها تشدّ من أزر الجيوش الوطنية في المنطقة وتعدم سبب وجود قواته الباحثة عن إدارة الصراع بحجّة “حفظ أمن الملاحة الدولية” أو “سلامة الخليج” التي لم ولن تتحقق في ظلّ وجود أي قاعدة للغرب في المنطقة، لأن وجودها هو المهدّد الأول للأمن والسلم، وهو الراعي الأول لنمو الإرهاب وقطعانه.
المقاومة اليمنية الموجودة الآن قولاً وفعلاً في تلك المنطقة، تسير في المسار الطبيعي لكل المقاومات في العالم وفق القانون الطبيعي الراسخ “كل فعل يسبّب ردّة فعل تساويه”، وعلى غيرها من مسارات وقواعد اشتباك ومعادلات ردع أبدعت المقاومة في خلقها على جميع ساحاتها، التي بدأت تحقق ليس فقط مبدأ وحدة الساحات، بل ربط الساحات مهما بعدت المسافة بينها وتحقيق الاتصال بالفعل رغم انفصال الجغرافيا وتعدّد جبهات المواجهة. وبعد أن أدركت المقاومة اليمنية المشروع الغربي الرامي إلى استغلال الشعوب عبر حروب المضائق أتقنت الدرس جيداً واستغلت إمكاناتها المتواضعة والضعيفة المتمثلة ببعض الصواريخ والمسيرات والزوارق والقوات البحرية لتهديد أعداء يتفوّقون بالعدّة والعتاد ويبنون مجدهم على جبن وخوف غيرهم، وهي الآن تعلي كلمتها وتحدّد مطالبها تجاه الغرب وقاعدته الصهيونية المتقدّمة مستخدمة قواتها البحرية ضمن مياهها ومنطقتها، مدفوعة برابطة الدم والتاريخ واللغة والعقيدة الواحدة لنصرة أطفال غزة الذين يرتقون شهداء وجرحى بالآلاف للشهر الثالث، حيث تطالب بإيقاف العدوان عليهم كشرط أساسي لوقف استهدافها سفن الكيان وبضائعه في البحر الأحمر، في خضمّ قيام الإدارة الأمريكية بشلّ أدنى حركة لمجلس الأمن عبر الفيتو، وغيره من ممارسات الضغط على مؤسسات المجتمع الدولي التي أفشلتها تلك الإدارة في مهامها في حفظ الأمن والسلم الدوليين، أو تحقيق التنمية المستدامة للشعوب.
وفي الأثناء تسعى واشنطن لتضخيم ما يحصل في البحر الأحمر وبشكل متسارع لتحقيق غاية جلب تدخّل دولي لتوريط الدول في تحالفات بحجج حفظ الأمن والقضاء على الإرهاب، كما ورّطتهم سابقاً في غزو أفغانستان والعراق والاعتداء على ليبيا، الذي لم يجرّ على العالم سوى تعاظم خطر قطعان الإرهاب ونمو تنظيماته لتصبح جيوشاً منظمة ربما في إمرة الغرب حالياً، ويرمي إلى مضايقة من يعدّهم خصوماً له ويطوّق قدرتهم على النماء والازدهار على جميع الصعد.
إن المقاومة في اليمن لا تهدف إلى رفع أسعار النفط أو رفع أقساط التأمين البحري أو التسبّب في تضخّم عالمي بعد ارتفاع أسعار جميع حوامل الطاقة وتكاليف الشحن وتطويل زمنه عبر الالتفاف وسلوك طريق رأس الرجاء الصالح، بقدر ما تهدف إلى رفع صوت اليمن عالياً ضدّ الجرائم الفاشية المقترفة ضدّ أطفال غزة وأبريائها، عبر الربط بين توقف استهدافهم لناقلات العدو وبضائعه من جهة ووقف العدوان المتواصل على القطاع من جهةٍ أخرى، بينما يواصل ذلك الكيان إطلاق تهديداته بتوسيع الحرب ضدّ المقاومة سواء في اليمن أم المنطقة، دون أن يفكّر لحظة في إيقاف عدوانه أولاً.
إن عمل المقاومة اليمنية الرمزي مقسّم إلى عدّة مراحل، الأولى كانت عبر استهداف ناقلات إسرائيلية أو مملوكة جزئياً لها أو تحمل بضائعها، والثانية كانت في الاستهداف المباشر للعدو الإسرائيلي وقطع شريان اقتصاده وغذائه المعتمد على الشحن والمساعدات الغربية، أما الثالثة فمن المرجّح أنها ستهدّد شريان طاقة أوروبا بالتزامن مع قدوم برد الشتاء، وخاصة بعد أن حرمت نفسها من نعمة الغاز الروسي إبان سيرها خلف الإرادة الأمريكية في إشعال الحرب في أوكرانيا وإمداد نظام كييف بجميع أنواع الأسلحة والذخائر اللازمة لتهديد أمن وسلامة ووحدة الأرض الروسية حتى لو كان ذلك على حساب أمن ورفاه شعوبهم التي ثارت عليهم وتثور الآن أكثر ضدّ مشاهد قتل الأجنة والطواقم الطبية في غزة بحجّة “حق الدفاع عن النفس” الذي يعدّ بمنزلة رخصة قتل متجدّدة تمنحها أمريكا لـ”إسرائيل”.
إن حكومة الكيان الإسرائيلي المتطرّفة لا تتورّع عن صبغ قراراتها بالتهوّر وصبغ قرارات الإدارة الأمريكية أيضاً بهذا الطيش الجامح من خلال دور اللوبي الصهيوني الذي طالما ساهم عبر عقود بتوحّد شكل الحكومتين وتوجّهاتهما، كما لا تتورّع عن جرّ أمريكا – وإن كانت غير راغبة- إلى ساحة حرب جديدة، في ظل مخاوف الكيان التي لا تعدّ ولا تحصى وترسم طريقه السريع نحو الزوال في غمرة تنامي الدور الفاعل للمقاومة وتعزيز رغبتها في التحرير الكامل للأراضي العربية المغتصبة، وتحقيق الاستقلال بالقرار السياسي والاقتصادي لبلدانها المحاصرة.