ناس ومطارح.. بديع جحجاح: في مهب الحبق
تمّام بركات
ليست قصيدة (يا نسيم الريح قل للرشا) –الحلاج-التي تتهادى على إيقاعها الضربات الرشيقة، لريشة الفنان التشكيلي السوري بديع جحجاح -1973-إلا جزء من الحالة أو من الطقس الذي يحيياه وهو يختبر ألوانه بعناية العجائز ومتعة الأطفال، باكتشاف البديع من الأفكار التي تنداح كموال سوري عتيق، من تلك الريشة وهي تسيل على القماش الخام كالندى الملون، تاركة خلفها دما قانئاً بلون ورد الحكايات البعيدة.
الريشة لا تبدو في الفيلم القصير (مولاي زدني) بأجزائه الثلاث و الذي يظهر فيه جحجاح، يعمل على أحد لوحاته الشهيرة بالثيمة الأحب له، أو الموضوعة التي وجد فيها ضالته الفنية والإنسانية معاً، “الدرويش” بما تمثله عوالمه، وطقوسه ورموزه وعلاقتها بالحياة، وإيحاءه الذي يدور في فلكه، فالفنان الذي تخرج من كلية الفنون الجميلة عام 1996، وذهب في أصقاع الأرض يبحث عن هويته الفنية، وجدها عندما أشعلت الحرب أوراها، فكان في رحلة عكسية خلافاً لمعظم الفنانين الذين أخلوا المكان، وكما يصعد سمك السلمون بغريزته التيارات ويخوض بمشقتها ليصل مسقط رأسه، حيث يعيد تكوين الحياة، خاض بديع مع فكرته الصوفية العالية المزاج، التي بدأت تتبلور صورتها الواضحة لديه، منذ عام 2011.
الحوار الفني الذي يقوم عليه عمل بديع جحجاح، بما يحمل من أبعاد بوحية جامعة، لاقت صدى واسعاً محلياً وعربياً وحتى عالمياً، فالمشروع الفني بخطابه الرائق، وتوجهه نحو المحبة المختصرة بـ كلمة “حبق” والتي هي عكس كلمة “قبح”، لا يعترف إلا بالإنسان، بمداركه وآفاقه، بدواخله وهواجسه، بغض النظر عن أي خلفية فكرية أو دينية جاء منها، وهذا المشروع هو كيفية تحول “الدراويش” من عالم الصورة والتجلي إلى عالم الرمز والمعاني، هذه الرموز التي خلقت في الحرب واستمرت وأزهرت في الحرب، ستكون شاهدة على غياب الكثير من الفنانين التشكيلين في الداخل والخارج، الذين أهملوا هذا “المشرق”، المليء بالرموز والمعاني، على عكس فناننا الذي أعاد اكتشاف رموز جديدة، رموز “مؤنسنة”، فيها الصورة مختزنة داخل الكلمة، التي تشرق منها مجموعة قيم ونظم جمالية، يفوح ضوعها وتهب أُعطياتها، لمن أزال عن بصره وبصيرته، حُجب الكثافة والوهم، تاركاً لما ارتكز عليه وعيه في مراحل عمرية سابقة من توق وشغف معلقاً بين الجبال والسماء، أن يلتقط بحساسيته المرهفة، ذاك المعنى أو ذاك النور الكاشف لما خفي عن الآخرين من هذا الرمز أو غيره.
لا يزاول “جحجاح” الحب كفردة مفرغة من جوهرها، فالدرويش “بديع” يحياها كعقيدة متنفساً معانيها مع كل نفس يخرج من صدره، ومنها أطلق مجموعة رموزه التي بدأها كما مع بداية الحرب، مشتغلاً على مشروع بعيد الأمد، يقف الإنسان في مداه وفي عين تلك الدوائر أو الرموز، وهي “التكوين”، “ولادة أفلا45″، “رباعية أفلا” التي تضم (أفلا تعقلون، تتفكرون، تتذكرون)، ثم رمز “الجوهر” و “الهمزة الساجدة” ثم المشروع الدائم الذي يعمل عليه وهو “المحبة” والتي أيضاً كبقية الرموز السابقة، سيكون لها مفرداتها التي تشكل حالتها كما يعيها ويؤمن بتعدد مشاربها وينابيعها عند الإنسان السوري بكل أطيافه، إن كان ذلك في لوحاته ومختلف أعماله التشكيلية، وسيكون مع إطلاقه لرمز “المحبة”، أيضاً ولادة فرقة دراويش جديدة تحمل اسم “أنسنة”، وهي عبارة عن موسيقى من روح المشرق، فيها دعوة مفتوحة عبر السمع والبصر والتبصر، إلى تحول الإنسان السوري بعد هذه الحرب الضروس التي عاشها وتعايش معها، إلى صفة الإنسان الكوني، وعلى هذا فإن عمله الفني لا يكون فناً محضاً، بل هو أقرب إلى حالة استنهاض وتكوين، للحياة التي ألفها وعرفها في الديار، تلك التي لونت روح الفنان فيه بلونها كما كلمتها، إنهما في وجدانه امتداد وتكامل وبهما يقوم الفن.
يحكي بديع بشيء من الأسى عن عدم وجود مشروع فني متكامل أو يتجاوز الحدود الفردية، للعديد من الفنانين الكبار الذين هاجر منهم من هاجر وانكفأ منهم من انكفأ، لذا يرى جحجاح بأنه لا يوجد اليوم حالة فنية “نخبوية” بقدر ما نحن أمام حالة “شللية” أقرب إلى المرضية بل ومغرقة في الشخصانية، وهي لم تنتج مسلكاً تنويرياً يكون بمثابة نور يُهتدى به، في الوقت الذي تجاوز فيه كفنان فكرة اللوحة المسطحة على جدار، ليصبح مشروعه برموزه المختلفة، ونتاجه الفني المتنوع، بين أيدي الجميع، يحيا يومياً معهم، إن كان في لوحة فنية بإمكان من يريد اقتنائها أن يقتنيها، فالأرقام الفلكية التي يُسعر فيها العديد من الفنانين نتاجهم، لا تنطبق على نتاجه الفني، أو قطعة مجوهرات بسيطة وعميقة في آن، تختزل بصياغتها الرؤية الفكرية والروحانية لهذا المشروع.
بديع جحجاح فنان سوري معجون من تراب هذا البلد وماءه، صدّر حالة سورية مشرقة في حلكة زمن الحرب، فكل القبح الذي مورس على بلاده، كان لا بد له من مواجهة جمالية شكلاً ومضموناً، وما شتلة الحبق التي تنتشر في الغاليري الخاص به “ألف-نون” والتي يخرج بها الزائر من الصالة وهي بيده وعطرها في قلبه، إلا الشكل والمضمون لهذه الحالة الجمالية، وهي تحتاج كما يرى بديع إلى جسر من ” حب” لإدراك تجليات الخالق العظيم، و “حق” لتكريس العدل بين الناس، والفن يستطيع أن يفعل ذلك، طالما أنه صادق مع ذاته أولا ومع الآخرين.