هل موقف الإدارة الأمريكية جريمة أم غباء؟!
عناية ناصر
تجاوز الرئيس الأمريكي، جو بايدن، كل التوقعات فيما يتعلق بسوء إدارته للسياسة الخارجية الأمريكية. والحقيقة أن التوقّعات كانت منخفضة للغاية، وذلك في المقام الأول، نظراً لسجلّه السياسي الطويل جداً الحافل بالمواقف المؤيّدة للحروب العديدة التي خاضتها الولايات المتحدة طوال العقود الماضية، وصولاً إلى احتلال العراق الذي أيّده بايدن بحماس.
أما فيما يتعلق بسجلّه في دعم “إسرائيل” طفل أمريكا المدلل، فلا يفوّت بايدن فرصة ليعلنه بكل فخر، كما يفتخر بصداقته القديمة مع رئيس وزرائها زعيم اليمين الصهيوني المجرم بنيامين نتنياهو. وكان الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما قد طلب من بايدن، منافسه السابق، الانضمام إلى حملته الانتخابية كنائب للرئيس من أجل طمأنة جناح الصقور في الحزب الديمقراطي، وذلك لأن أوباما كان يعدّ من حمائم الحزب، وخاصة بعد أن عُرف بمعارضته لاحتلال العراق. وكان أوباما أقل حماساً في دعم “إسرائيل” من زعماء آخرين في حزبه، وكان مستاءً بشكل خاص من نتنياهو، الصديق المقرّب للمتعصبين البيض. ولسوء حظه، أصبح نتنياهو رئيساً لوزراء الكيان الصهيوني في عام 2009، وهو العام نفسه الذي تولّى فيه أوباما منصبه وظل نتنياهو رئيساً للوزراء طوال فترتي أوباما الرئاسيتين.
ورغم أن الأخير استمرّ في تقديم مختلف أشكال المساعدات لـ”إسرائيل” بسبب الجبن السياسي الذي اتسمت به مواقفه بشكل عام، والسماح له بإرضاء حق حزبه، إلا أن نتنياهو شنّ عليه حرباً سياسية مفتوحة بالتحالف مع الجمهوريين، الحزب الذي واصل انزلاقه نحو اليمين المتطرّف حتى أصبح دونالد ترامب رئيساً.
وعندما استعاد الحزب الديمقراطي الرئاسة بفوز بايدن على ترامب، واصل الرئيس الجديد السير على خُطا سلفه الجمهوري اليميني المتطرّف في السياسة الخارجية، بدلاً من العودة إلى السياسة التي اعتمدها خلال فترتي أوباما اللتين شارك فيهما. وقد تجلّى ذلك في أوضح صوره في مجالين: سياسة الولايات المتحدة تجاه الصين والكيان الصهيوني، حيث واصل بايدن سياسة العداء الاستفزازية تجاه الصين التي اعتمدها سلفه الجمهوري، والتي أضرّت بالعالم بأكثر من طريقة، وخاصة في منع التسوية السلمية للحرب الروسية الأوكرانية، التي دعت إليها بكين منذ البداية، وتستمرّ في القيام بذلك.
أما فيما يتعلق بـ”إسرائيل”، فلم يسحب بايدن أيّاً من الإجراءات التي اتّخذها ترامب لإرضاء صديقهما المشترك نتنياهو، بما في ذلك نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، بل كان الشغل الشاغل لإدارته فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، مثل الإدارة التي سبقتها، هو توسيع نطاق التطبيع العربي مع الكيان المحتل، بدلاً من الضغط على “إسرائيل” لتجميد الاستيطان.
لذلك، لم يكن مفاجئاً أن يلجأ بايدن إلى التضامن غير المشروط مع صديقه نتنياهو، عقب عملية “طوفان الأقصى”، حيث حظيت مواقفه بترحيب من الجمهوريين أكثر من الديمقراطيين في الكونغرس، وكذلك من الناخبين والناخبات، كما أكّدت جميع استطلاعات الرأي. في الأول من كانون الأول الحالي، نشرت صحيفة “فاينانشيال تايمز” تقريراً لكبير معلقيها حول السياسة الأمريكية، إدوارد لوس، ناقش فيه التوتر القائم بين الرئيسين الديمقراطيين السابق والحالي فيما يتعلق بالموقف من “إسرائيل”. ونُقل عن أنصار أوباما، الذين عملوا في إدارته، قولهم: إنه لو كان أوباما في السلطة “لكانت الولايات المتحدة وضعت شروطاً على المساعدات العسكرية لـ”إسرائيل” وتحدّثت عن إخفاقات بنيامين نتنياهو الفادحة”، بدلاً من احتضان “إسرائيل” كما تفعل إدارة بايدن.
اعتقد بايدن أنه يستطيع استخدام دعمه المبالغ فيه وغير المشروط لـ”إسرائيل”، الذي أرضى الجمهوريين، لإغرائهم بإعطائه الضوء الأخضر لتقديم المساعدة العسكرية لأوكرانيا، وهو الأمر الذي هم أقل حماساً له، والذي يعارضه حتى جناحهم اليميني المتطرف. وربط بايدن مبلغ الـ14 مليار دولار الذي قرّر تقديمه لدعم المجهود الحربي “الإسرائيلي” بالمساعدات العسكرية لأوكرانيا في حزمة شاملة تجاوزت 100 مليار دولار. وقد فشل الأمر، حتى الآن، حيث جاءت خطة بايدن بنتائج عكسية عليه لأن الجمهوريين انتهزوا الفرصة لفرض شروطهم، وخاصة فيما يتعلق بسياسة مراقبة الهجرة.
أما حماقة بايدن الكبرى فهي الاعتقاد أنه من خلال دعم “إسرائيل” الكامل سيكون قادراً على التأثير في سلطة الكيان أكثر ممّا لو اتبع سياسة مثل تلك التي مارسها أوباما. وبدلاً من ذلك، وجد نفسه غير قادر على فرض أي شيء على صديقه نتنياهو، وخصوصاً أن الأخير يعوّل على الجمهوريين الذين يملكون الأغلبية في الكونغرس، بل يراهن على فوز ترامب بالانتخابات الرئاسية العام المقبل.
لقد أصبح واضحاً منذ بداية العدوان “الإسرائيلي” الحالي أن هناك خلافاً بين الإدارة الأمريكية ونتنياهو بشأن مصير قطاع غزة بعد استكمال “تصفية المقاومة الفلسطينية” وهو الهدف الذي أيّدته واشنطن دون قيد أو شرط، لأن سلطات الاحتلال تريد احتلال قطاع غزة بشكل دائم، بينما تريد واشنطن انسحاب القوات الإسرائيلية منه وتسليمه للسلطة الفلسطينية. لكن إدارة بايدن غير قادرة على فرض إرادتها على حليفها المدلل ولا تستطيع التوقف عن دعمه خوفاً من هجوم الجمهوريين عليها. لذا فإن استراتيجية “عناق الدب” المعروفة في الولايات المتحدة بسياسة الدعم مقابل النفوذ والإدارة، فشلت في تحقيق هدفها المعلن، ولم يبقَ لها سوى “العناق”، أي الدعم الكامل الذي وصل للمرة الأولى إلى مستوى المشاركة الأمريكية المباشرة في حرب تشنّها “إسرائيل” ضد المدنيين، وحتى حرب إبادة جماعية، مع تزويد سلطات الاحتلال بكل ما تريده من أسلحة أمريكية دون قيد أو شرط. ويشمل ذلك تسليم قنابل زنتها 2000 رطل، تتجنّب القوات الأمريكية نفسها استخدامها في المناطق الحضرية لأن استخدامها في مثل هذه المناطق سيؤدّي بالتأكيد إلى سقوط عدد كبير جداً من الضحايا المدنيين.
وختاماً يمكن القول: إن الإجابة على سؤال موقف بايدن وإدارته يندرج في خانة الغباء الشديد والجريمة النكراء، وهو ما دفع بعض أصحاب الضمائر الحية في الإدارة إلى الاستقالة.