بين التأخير والتأجيل .. رأس مالنا البشري يتآكل! ما الذي يمنع من استثمار طاقاتنا البشرية ودعمها للوصول إلى التعافي المبكر؟
البعث الأسبوعية – غسان فطوم
سنوات عديدة ونحن نردد أن الاستثمار في الرأسمال البشري الوطني هو أفضل استثمار، خاصة وأن الحاجة له اليوم ملحة أكثر من أي وقت مضى مع إطلاق مرحلة إعادة الاعمار التي ما تزال ترواح مكانها، بالرغم من أن الحرب توقفت منذ أكثر من ثلاث سنوات، وعاد الأمن والأمان، لكن إذا كان هناك تعقيدات وصعوبات في الاعتماد على الدعم الخارجي من الأشقاء والأصدقاء الذي تحكمه ظروف وشروط صعبة، فالسؤال هنا:
ما الذي يعوق الاعتماد على طاقتنا الوطنية، ودعمها لتكون قادرة على حمل ثقل مرحلة إعادة الاعمار والتعافي المبكر للوصول إلى ما نصبو إليه من استقرار وأمان في مختلف المجالات؟.
مؤلم أن نرى رأسمالنا البشري المميز يتآكل، والمحزن أن نوظفه في غير مكانه، أو نجبره على الهجرة ليستفيد غيرنا من خيره، هذه الكلمات المؤلمة كانت قاسم مشترك للعديد من الخبراء والاستشاريين في عالم الاقتصاد والمال والموارد البشرية!
تغيير جوهري
مع انخفاض تداول الحديث عن إعادة الإعمار واستبدالها بمقولة (التعافي المبكر) نظراً لعدم توفر الدعم الخارجي لتمويل عملية إعادة الإعمار، يرى الخبير الاقتصادي الدكتور شادي أحمد أنه لا يوجد أمام السوريين (المقيمين و المغتربين و المهاجرين) سوى حل واحد و هو الاعتماد على الذات و إطلاق الطاقات الوطنية، لكن وبحسب رأيه أن الاستثمار العميق في رأس المال البشري و الاجتماعي ليس بالسهولة، بل يحتاج إلى تغيير جوهري في السياسات الحكومية و الإدارية، لافتاً إلى أن أهم مرتكز لهذه العملية هو القاعدة القانونية المهمة جداً و المقرة في الدستور المعروفة باسم (تكافؤ الفرص) والتي تمر مرور الكرام في كل بيان حكومي أو برنامج إصلاح إداري، مؤكداً أن تحقيق تكافؤ الفرص يحتاج إلى بيئة قانونية و بيئة إدارية سليمة و كذلك بيئة أعمال في القطاع الخاص، فالفرص الاستثمارية والتجارية والتشغيلية يجب أن تكون متاحة أمام الجميع دون احتكار أو استئثار، كذلك الفرص الإدارية و المهنية أيضا يجب أن تكون متاحة أمام الجميع دون إقصاء أو محسوبيات.
لا يجوز!
ووفق ما سبق وبحسب الخبير الاقتصادي “أحمد”، لا يجوز أن يكون لدينا مسؤول أو مدير أو قيادي في القطاع الحكومي أو القطاع الخاص و هناك من هو أفضل منه حتى لو كان أدنى منه تراتبياً أو غير مسموح له أن يكون ضمن الهيكلية، وبرأيه لا يجوز لشخص واحد في القطاع الخاص أو العام أن يكون لديه عدة مناصب و عدة ملفات في وقت واحد، والإخفاقات تطارد نتائج ملفاته كلها، وأيضاً لا يجوز أن يكون لدينا مشروع يطال كل مفاصل الدولة الإدارية و يصيب العصب الأهم فيها دون أن يكون هناك جهات مستقلة تناقش و تقيّم هذا المشروع.
ومن الممنوعات الأخرى التي أشار إليها الخبير “أحمد” لا يجوز أن يكون (تمويل) قطاع التجارة الخارجية مرهوناً بإرادة أشخاص أو شركات محددة، والأهم لا يجوز أن نتحول من البلد المحوري إلى بلد الفرص الضائعة!.
أولويات ضرورية
من جانبه الدكتور سامر المصطفى أستاذ الاقتصاد في جامعة دمشق لم يذهب بعيداً عن الطرح السابق، حيث دعا الجهات المعنية إلى التخلص من المماطلة والتسويف والتأجيل، فيما يخص مرحلة إعادة الاعمار، أو مرحلة التعافي، والتي تحتاج برأيه إلى خطوات جريئة للإسراع في إنجاز العمل والوصول إلى النتائج التي نصبو إليها وفق الخطط والبرامج والممد الزمنية المحددة.
وشدد “المصطفى” على ضرورة أن تقوم الجهات المختصة بدعوة الخبراء من الكفاءات الشابة والخبيرة لإعادة العمل كفرق تحدد لها الأعمال المطلوبة بكل مجال على أن تُقدّم للكوادر كل الموافقات والتراخيص اللازمة للقيام بكل ما يسهّل ويسرّع إعادة الاعمار، وخاصة ما يتعلق بتأمين عقود عمل بأجور مجزية وفق النتائج والأداء لكل مرحلة من الانجاز، والسماح لكل فريق بالاعتماد على من يشاء دون التقيد بالقوانين والأنظمة والتعليمات بالمجال المطلوب، لكن وفق نتائج حقيقية على ارض الواقع، مع تأمين الآلات والأدوات المطلوبة بحسب المجال أو القطاع المطلوب الاعمار فيه.
أدرى بشعابنا
الدكتور خالد عقيل /أستاذ جامعي متقاعد/ أكد بدوره أن نجاح الاستثمار بالرأسمال البشري الوطني لا يمكن أن ينجح طالما هناك إدارات تجهل كيفية التعامل مع الكفاءات والخبرات، مشيراً إلى تحوّل العديد من المؤسسات إلى بيئات طاردة للكفاءات.
وأعرب عن حزنه وألمه من هدر خبرة الكفاءات الوطنية وعدم الاستفادة من تراكم رأس المال البشري الوطني الذي يعتبر أحد المقومات الرئيسية للنمو الاقتصادي خاصة في هذه المرحلة الصعبة التي نحتاج فيها لجهد كل الكوادر الوطنية.
الدكتور عقيل دعا للاهتمام مادياً بالخبرات الوطنية وتمييزها بالتعويضات المجزية حتى نحافظ عليها، مشيراً إلى نجاحات السوريين في بلاد الاغتراب الذين حققوا فتوحات علمية في مختلف المجالات والتخصصات، مؤكداً أن مرحلة إعادة الاعمار لا تقوم إلا على سواعد السوريين فنحن أدرى بشعاب البلد وما تحتاجه، ونحن الأقدر والأكفأ من الخبير الأجنبي الذي يأخذ أكثر مما يعطي.
غير مبرر
ودعا خبراء ومختصون من أساتذة الجامعة إلى الإكثار في الاستثمار في التعليم والتدريب والبحث العلمي الذي ما زال برأيهم ضعيفاً وغير واضح المعالم، مؤكدين أن تعافي البلد يجب أن يقوم على أسس ومعايير صحيحة تؤمّن البنية التحتية للتنمية لعقود عديدة، مشيرين إلى أن منطق التأخير أو التريث بحجّة الخوف من اقتراف الأخطاء غير مبرر، بل نحن نحتاج لحرق المراحل واختصار الزمن لتعود القطاعات للعمل في مختلف المجالات بأسرع وقت ممكن.
بالمختصر، إن إعادة اعمار البلد وتعافيها بشكل مبكر يحتاج بالدرجة الأولى إلى استنفار حقيقي تقوده الكفاءات والخبرات الوطنية، واستثمار مواردنا الاقتصادية بالشكل المناسب، وذلك ضمن برنامج محدد الرؤى والأهداف، تحت مظلة مرنة اقتصادياً وتشريعياً لتكون محفّزة ومساعدة على اجتذاب أو استقطاب العقول الوطنية في الخارج وتأهيل وتدريب ودعم الموجودين في الداخل ووضعهم في المكان المناسب، انطلاقاً من أهمية وضرورة تنمية وتطوير رأس المال البشري، وتعزيز الاستثمار في المهارات والكفاءات بما يلبي متطلبات مرحلة الاعمار والتعافي التي تأخرت كثيراً!.