أبو القاسم الشابي والنظرة الكونية إلى ممرات الدهشة
هويدا محمد مصطفى
تبدو الشاعرية، دهشة عذراء بين قبائل المفردات وأسرة اللغة، بل هي إزاحة بسيطة للأشياء من مكانها لترصد كل الجهات التي يعانق فيها الشاعر ذاته، وقد قبض على اللحظات الهاربة، وحوّلها إلى فطرة جديدة، ونداءات عصية، توقظ كل ما حوله حتى القرى والمدن النائمة، وتستريح بعد ذلك القصيدة ولو على ربوة في آخر الجرود، أو شاطىء على حدود البحار البعيدة من هنا كان على الشاعر أن يصارع هلاله كل يوم ألف مرة على قطرة ضوء ليظل حاملاً مشغله الإبداعي فوق كتفيه، ومواجهاً مصيره، وقد ألغى من حساباته كل الأمور الأخرى ماعدا القراءة المتأنية لطبيعة الطقوس التي حاولت أن تعرقل سير القافلة “أبو القاسم الشابي”, والتفاحة المحرمة لئن كانت حياة الشابي قصيرة ببلدته “الشابية” في تونس الخضراء حياة مثقلة بأوجاعها الباطنية ومسكونة بمعجزات تفوق قدراته الشخصية، فإنه مع ذلك استوعب حركتي الطبيعة وإرادة التاريخ وبنى من خلالهما موقعه الملتزم على خارطة الشعرالعربي الحديث.
يعد الشّابي شاعر وجداني بامتياز، ويصنفه دارسون في قائمة شعراء المدرسة الرومانسية أو المذهب الرومانسي، مستندين إلى طائفة من المواصفات التي تميزت بها الرومانسية كاللفظ والأسلوب المتين والمحكم النسج، ويشكل القسم الأعظم من شعره حيث الألفاظ الجزلة المتميزة والغريبة بآن معاً، إلى درجة تستدعي العودة إلى فنون اللغة ومعجماتها في بعض الأحيان والأسلوب اللين ومعظم قصائد هذا الأسلوب في الفخر والرثاء والحكمة ومعظم قصائده يغلب عليها الطابع الوجداني والخيالي..
كان الشابي ناقماً على عمود الشعر العربي، وعلى الحياة العربية الأصيلة، ودفعته نقمته هذه إلى الإكثار من استعمال الألفاظ العامية، ومما امتاز به أسلوب الشابي الرصانة في التعبير والبعد عن الركاكة، وكثيراً ما كانت الرومانسية بعاطفتها الجياشة وبتقديسها للشعور والاستخفاف بالعقل بوصفه يحد من العاطفة تحكم منهجه الأدبي وتوجه سلوكه الفكري، ولعل هذه الرومانسية التي سيطرت على أسلوبه وعلى تفكيره هي التي ولّدت لديه خيالاً خصباً أثرى شعره بالصور الأدبية، لكن الأبرز في شعره كان الجدية الممزوجة بالحزن التي طغت عليه منذ علم بمرضه.
لقي الشابي إهمالاً كبيراً في زمنه، ما أثّر على مواله وطريقة تفكيره، لكنه ظل حتى اللحظة الأخيرة يمتطي قطاره في إحدى عربات الرومانسية التي اطلع على فنيتها، من خلال من سبقوه من أبناء جيله كجبران خليل جبران، ولقد أسعفته قراءته المبكرة لفنون الشعر في تشكيل وعيه، حتى صار فيما بعد أباً روحياً للرومانسية التي اقتحم فيها حصون الشعر من دون مقدمات، فهو المتأمل دائماً والمتألم وحيداً والداخل إلى عالمه على طريقة الواثق بإمكاناته.
وتأتي عظمة الشابي من تجاوزه محليته الضيقة إلى انتشاره الواسع في الوطن العربي على الرغم من صغر سنه، ومحاصرة الموت له وهو لم ينضج بعد، لقد صحب طيور الغابات ورأى فيها متعة وذلك هرباً من عالمه المأزوم، فكانت لغته التراثية شرقية الهوى، مدركاً أن التقليد مهما اطلع الشاعر على تجارب غيره هو مثل الأصابع العمياء التي تتحرك في الوحول دون أن تعجن شيئاً، أو ترسم خطوطاً تقتحم فيها الشعائر ولتقف في مواجهة الضجيج.. لقد كانت الغابات وطن الحرية لخياله المحلق دائماً، كيف لا؟! وهو الذي قرأ رأي جبران في الغابة يوم قال: “النسر لا يبني عشه في الصفصاف الباكي، والسبع لا يفتش عن عرينه بين الأدغال”، من هنا استطاعت قصيدة الشابي أن تعكس مفهومه للحرية وتشرعن هذا المفهوم عبر شفافيته الحزينة واختراقاته الوجدانية الحارة وقد دللت فضاءات اليأس التي دخلتها رؤيته بأن الموت هو النهاية المفتوحة، لكن على الحياة، وكماض قادم لا ترافقه الفزاعة، أو تمزق أبعاده الشياطين، يقول:
مالمزمارك لا يشدو بغير الشهقات؟!
ولأنغامك لا تنطق إلا باكيات
هوذا قلبي البحر وأمواج الحياة
أين أحلامك يا قلبي لقدمات الفوات
يبدو الشابي في حواره لقلبه صوتاً أخمره الموت وجعل من رؤيته فلسفة جديدة في الخطاب الشعري إزاء العالم الذي يحيط به وهو يدخل عتبات النصوص بوحي من البعد الزمني الذي يتلاشى فيه، مصغياً إلى حجم المصاب الذي يزحف عبره القلب باستعلائية لا رابط بينهما وبين هذا الوجود سوى أنه فيها الحدث المدهش لجغرافية الشعر، فهو يريد عبر الشعر أن يبدل استراتيجية العالم ولو اشتعلت النيران فوق جفنيه ونامت تحت جلده كل الزلازل الجائعة، لقد أعطى الشابي فكرة الموت معنى مستقلاً من خلال إرادة فولاذية، ولهذا كثرت في قصائده اختلاطات الأحلام واستطاع أن يفسر لخيبات الإنسانية تفسيراً صحيحاً عماده الضمائر الحية الذي يظل فيها الشعب أميراً لا الحكام ولا السلاطين:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة / فلا بد أن يستجيب القدر
ولابد لليل أن ينجلي / ولابد للقيد أن ينكسر
ومن لم يعانقه شوق الحياة / تبخرفي جوها واندثر
لقد وصل الشابي إلى سلطة النصوص عبر الصور المحسوسة حيناً والمجردة حيناً آخر، وعلى الرغم من تزاحم مفرداته وتكثيفها، لكنها جاءت مشحونة بالمعاني وكانت مرجعاً للبطولة الفردية في قارب تعطلت بعض أطرافه، وهو يحاول أن يعبر البحار، بعدما ترك في البراري لوحة الغواية الأولى في تعاطيها مع اليأس المطبق والترويج لدولة الأحلام القادمة..
إن النظرة الكونية التي ضخ عبرها الشابي آلامه وحمّلها فردوسه اللغوي إلى ممرات الدهشة والغواية هي مزيج من الأناقة الروحية، والفطرة السليمة التي تمتاز بها الشاعرية فهو المناصر لكل القضايا الإنسانية، وكانت هي النوازع التي انطلقت منها انفعالاته المتناظرة في وحدتي الزمان والمكان على حد سواء، وكانت هي الدافع أيضاً إلى تغيير واقع المرأة التي عاشت أسيرة عبوديتها حتى في ظل المؤيدين لخلاصها من هذه العبودية ليقول:
خلقت طليقاً كطيف النسيم / وحراً كنور الضحى في سماه
كذا صاغك الله ياابن الوجود / وألقتك في الكون هذي الحياة
لقد استطاعت نصوص الشابي أن تحمل مشروعها البلاغي عبر الاستعارات والتشابيه بوعي جديد، تمكن من خلاله القبض على المشاع السري في بنيتها، وبنى عالماً خاصاً به، معتمداً على تناصات قليلة فيها، مستنجداً بسارق النار “بروميثيوس” حتى يكمل تجربته الشعرية التي تنقل فيها مركبه بين الأمواج الصاخبة وخلف رقصات الشيح والصفصاف، في الليالي المظلمة وكانت صوره لماحة ذكية وسفينته البرية تبدأ حمولتها بالشعر وتنتهي بالشعر:
الويل للدنيا التي في شرعتها / فأس الطعام كريشة الرسام