الشرق وتجدد الدورة الحضارية
د. خلف المفتاح
الشرق رسالة جامعة لأشياء كثيرة هي عبارة تختزل تجربة تاريخية عظيمة لهذه المنطقة من العالم وتختزل رؤية للمستقبل لأن العالم اليوم يحتاج لرؤية للمستقبل في ظل الليبرالية المتوحشة وتسليع الحياة البشرية والتعامل مع الإنسان وكأنه كائن بيولوجي وليس معرفياً وأخلاقياً، فالغرب بالمقارنة مع الشرق، بدا واهناً يستنفذ ويستهلك، والشرق تاريخياً هو منبع الأديان والثقافات والفلسفات والحضارة. ولعل الدورة الحضارية بانتظاره إذا علمنا أن الدورة الحضارية تاريخياً لا تزيد على مائتي عام إلى ثلاثمائة، فالتراث العظيم للإنسانية كان منبعه الشرق، وعواصم الحضارة الشرقية كانت تتحرك في الجغرافية الممتدة بين شمال شرق المتوسط وجنوبه الشرقي، وعندما قويت بيزنطة وجدت نفسها مضطرة لتتخذ منهجاً مختلفاً عن روما، فكان الحديث عن الإمبراطورية الرومانية الشرقية والغربية؛ وحتى في الديانة المسيحية كانت الكنيسة المشرقية الأرثوذكسية مختلفة عن الكنيسة الغربية الكاثوليكية، فالمكان وهوية المكان فرض نفسه حتى على الذين جاؤوا من الغرب، وهذا حال الفلسفة اليونانية والرومانية عندما تحركت شرقاً اكتسبت ملامحها فكانت الفلسفة الهيلينية أو الهلستينية، وحتى القسطنطينية وإن كان القادمون إليها من الغرب إلا أن روحهم أصبحت شرقية وهي الجغرافية التي ينتقل فيها الإنسان من اللحظة الغربية إلى اللحظة الشرقية.
ولعل معظم حركات التغيير في المنطقة انطلقت من الشرق. وهنا نتذكر عصر النهضة ورواد النهضة العربية، حيث كان مركزها دمشق وبيروت والقاهرة وبغداد، ناهيك عن أن الديانات الثلاث التوحيدية والفلسفات الإنسانية ولدت في الشرق، بجغرافيته الواسعة الممتدة إلى بلاد فارس والهند والصين، فالشرق تاريخياً هو روح العالم، فثمة نمو طبيعي للأفكار يحتضنه الشرق، ففي حالة ضيق المساحة يضيق الفكر وتضيق إمكانية التجربة.
إن قدر الشرق راهناً هو التلاقي الثقافي السياسي الاقتصادي ومحاربة المفاهيم الذي ضخها الغرب في وعي أبناء المنطقة، والتي تستند إلى رؤية استشراقية فيها بنية احتقارية لأبناء الشرق. وتكريس فكرة أن الحضارة هي احتكار للرجل الأبيض، ورسالته المدعاة بالتحضير، هي الغطاء للاستعمار والسيطرة واستعباد شعوب الشرق والجنوب ونهب ثرواتهم وخيراتهم وإبقائهم في مربع الفقر والجهل والتخلف والتطرف، فلابد من ولوج مسيرة ومنهج جديد لشعوب الشرق والجنوب، وهذه مهمة النخب الفكرية والثقافية والقوى السياسية، ولاسيما الأجيال الشابة التي يجب أن تكون رافعة ذلك المشروع من خلال الاستثمار في العقول وتوطين المعرفة وإعلاء رسالة الإنسان الكائن المعرفي والأخلاقي وليس الكائن البيولوجي الذي همه المتعة والخلاص الفردي والمتحلل من منظومة القيم، ولاسيما قيمة الأسرة والمجمع والهوية الإنسانية.
إن كسب المعركة الثقافية والمعرفية مع الغرب الاستعماري مسألة على درجة من الأهمية في ظل إرهاصات أولى لنظام دولي جديد لا تقتصر المنافسة والصراع فيه على الجانب العسكري والاقتصادي، على أهميتهما، ولكن البعد الثقافي والمعرفي والقيمي الإنساني يحتل حيزاً مهماً ومركزيا فيه، ولا يمكن بناء نظام دولي إنساني قادر على الاستمرار دون حامل أخلاقي وقيمي نواته إنسانية الإنسان بغض النظر عن أي معطى آخر.. ومن هنا، تصبح روح الشرق ورسالة الشرق هي الأمل وطوق النجاة.