ثقافةصحيفة البعث

تنويعات على الموسيقا

رائد خليل

وكم من ديكٍ صدَّق أنّ الشمس تشرق بصياحه، ربما قارب “تيودور فونتانه” هذه المقولة مع صيحة “كاليجولا” عندما قال إنه سيجعل الشمس تشرق من الغرب!.
صيحات عديدة وأصوات يذهب أغلبها هباءً منثوراً.. إذاً، الصرخات تتعالى من صرخة “أدوارد مونش” في عام 1893 إلى يومنا هذا، ويبقى الصدى يلملم انكساراته على إيقاع (الدم الدم تك) ويمشي على رؤوس أصابعه تحسباً.
يقول أبو القاسم الشابي في إحدى رسائله: “إنَّ الفنان يا صديقي، لا ينبغي أن يصغي لغير ذلك الصوت القوي العميق الداوي في أعماق قلبه.. أما إذا أصغى إلى الناس وما يقولون، وسار في هذه الدنيا بأقدامهم، ورآها بأبصارهم، وأصغى إليهم بآذانهم، فقد كفرَ بالفن وخانَ رسالة الحياة”.
وها هو “الشابي” أيضاً في رسائله، ينبّه الوعيَ من تلك الأصوات التي تسير على جرفٍ مواربٍ، ولا تبلل أقدامها في المياه الجارية إلى الحاضر البعيد وترقبه الداوي والمداوي.
إذاً.. إن الموسيقا تصنع ماضياً لم نلحظ وجوده، هذا ما عبّر عنه “أوسكار وايلد”.
لكنْ، ماذا عن أصوات القادم، وهل تبدلت أثوابُ النغمات حتى بتنا نخاف الحديث عن مقام جديد..؟
سُئل حكيم مرةً؟
ما الموسيقا الحرام؟
قال: “هي رنينُ الملاعق في صحونِ الأغنياءِ عندما يصل إلى آذانَ الفقراء، ومن هذا الرنين، إلى اهتزاز الوتر الذي أشهرَ مرآته في لحظة ترقبي، فرأيتُ رمق المواجع في آخر طوق نجاة.. حيث كنا نلاطف الأنفاس بمدّ من شهيق و”كمشة” زفير مسربل بحطب الاشتعال”.
وأنا أهدهد الفالس والصَبا والبيات والحجاز والنهوند وصحوة الامتداد على ظل عمر مشتهى، حتى احتدمت قرب الحنين استعارات الهذيان ..وعلى سلّم الحكاية اختمرت عذرية الآه واحتفت بفيوض الاختمار ويقين التدفق السخيّ.
هنا، انتصبت نغمةٌ كاليمينِ في لحظة خشوع وتسبيح، وأفرجت عن القَسَمِ المعمّد بقدود الأبدية.
قالوا: في البدء كانت الكلمة.
من الصرخة الأولى إلى صوت هدير الموج، إلى صوت الرعد وزقزقة الطيور، بدأت مقامات الروح تتوالد.
إذاً.. في البدء كانت النغمة وصوت الحياة.
مرةً قالها نيتشه: “الحياة من دون موسيقا غلطة”.
وأقول:
على غصن المقامات
برعَمَ النشيج
فابتكر العشّ لنا
من المجاز زقزقة..!
***
إيقاع يسكب صباه
على ظمأ المقامات
فأسمع اهتزاز الوتر
وينتعش طوفان الآهات
والشذرات.
***
إذاً، في البدء كانت النغمة وصوت الحياة.
إنّ الموسيقا كانت حوريةً في سماء الآلهة..عشِقتْ آدمياً، وهبطت نحوه من العلو، فغضبت الآلهة عندما علمت بهذا الخطب الجلل، وأرسلوا وراءها ريحاً شديدة نثرتها في الجو، وبعثرتها في زوايا الدنيا وأرجائها، ولكنها لم تمت، وظلّت حيّة تدغدغ أسماعنا في كل لحظة وجدٍ وتحليق.
إذاً.. في البدء كانت النغمة وصوت الحياة.
إذاً.. ابقَ حيث الموسيقا والغناء، فالأشرار لا يغنّون.. فالأشرار لا يغنّون.
إذاً.. نحن محضُ ظلٍّ..انتابتنا قشعريرة السواد، فصهلتْ ينابيعه مفتونةً بإيقاع أغانينا،وأسراب التأمل حطّتْ على أغصان فرشاتي، وزقزقتي بريئة كموعظة جناح، أطيرُ بخطوطي كألم يمخرُ عبابَ التخيّل، وعلى حافة رقيقة الخطوة، تتهادى أنوثةُ اللوحة إغواءً، فأمدُّ ذاكرتي على بساط الوقت وأرعى جنون الفسحة.. وأحشرني في زاوية الغروب.. يا أنتم.. أستميحكم لوناً، فسمائي أسدلتْ زرقتها لنسيم التأمل، فاقرؤوا ما تيسّر من ألفة الغواية، ومنّي خذوا ما طاب من سحر أقواسي، وقزح طوفاني!.
إذاً.. ابقوا حيث الموسيقا واللون والغناء، فالأشرار لا يغنّون..