“منطق القوة” الذي تتبناه أمريكا هو الضعف الحقيقي
عائدة أسعد
تصرّ دائماً الولايات المتحدة على التباهي بنمطق القوة في كل علاقاتها، مهما إدعت الوداعة أحياناً، فنجد مثلاً وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن يؤكد استمرار “التعامل مع الصين من موقع قوة”، بل تفاخر أيضاً بتحالفات الولايات المتحدة في منطقة آسيا الهادي، مدعياً أن “الصين تشكّل تهديداً للسلام”، رغم المواقف المعاكسة والقمم التي عُقدت مؤخراً بين القوتين العظمتين.
إن هذه المواقف الأمريكية، وخاصةً مواقف بلينكن تجّسد الذاكرة القصيرة، ويبدو أنه قد نسي كيف تم دحضه في أنكوراج، ألاسكا، في آذار 2021، من قبل يانغ جيتشي، الذي كان كبير الدبلوماسيين الصينيين آنذاك، عندما قال: إنه “ليس لدى الولايات المتحدة المؤهلات لتقول، إنها تريد التحدث إلى الصين من موقع قوة”. وأصبح رد يانغ شائعاً جداً لدرجة أنه ظهر على العديد من البضائع، بدءاً من القمصان وحتى أغطية الهواتف الخلفية المباعة على منصات التجارة الإلكترونية.
لقد سئم الشعب الصيني من اللهجة المتعالية التي يستخدمها الساسة الأمريكيون ضدّ الصين، ومن الواضح أن الولايات المتحدة الوحيدة كعضو دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لا تحتل موقع قوة، فقد شهد العالم كيف استخدمت مراراً وتكراراً حق النقض ضدّ قرارات وقف إطلاق النار في قطاع غزة، بل حتى حلفاؤها في أوروبا لم يقفوا معها في هذه القضية، إضافة إلى أن سمعة الولايات المتحدة تعرضت لضربة قوية، إذ شهد العالم كله، ولاسيما عالم الجنوب، نفاقها بشأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، حتى أن دبلوماسيين أميركيين حذّروا الرئيس الأميركي جو بايدن بالقول: إننا نفقد دعم العرب لجيل كامل من خلال دعم “إسرائيل” بشكل أعمى.
مع ذلك فإن السفير الأمريكي لدى الصين نيكولاس بيرنز مارس الهروب إلى الأمام، ملقياً باللوم على بكين لـ”عدم استخدام نفوذها في الشرق الأوسط لإنهاء الصراع الإسرائيلي -الفلسطيني”. ومن خلال القيام بذلك فقد غض الطرف عمداً عن الجهود الدبلوماسية المحمومة التي يبذلها وزير الخارجية الصيني وانغ يي ومندوب الصين الدائم لدى الأمم المتحدة تشانغ جون في ذلك الشأن.
كذلك فإن الولايات المتحدة تقدم الدعم العسكري لـ”إسرائيل” وتؤيد قصفها المتكرّر لغزة، في حين أن كبار مسؤولي الأمم المتحدة،لم يذكروا الولايات المتحدة بالاسم، لكن غضبهم من السياسة الأمريكية كان أكثر وضوحاً. ومع ذلك، فإن غزة ليست سوى واحدة من النقاط المنخفضة في السياسة الخارجية الأمريكية بدءاً من حربها التي دامت عشرين عاماً في أفغانستان مروراً بحربها في العراق، وليبيا، والثورات الملونة في آسيا الوسطى و”الربيع العربي” في الشرق الأوسط من قائمة طويلة لكوارث السياسة الخارجية الأميركية.
لعل بعض المسؤولين الأميركيين يعتبرون وجود مئات القواعد العسكرية الأميركية حول الصين علامة على قوة الولايات المتحدة التي تمكنها من التنمر على الصين، كما حاول بيرنز أن يفعل عندما تفاخر بوصول الولايات المتحدة إلى تسع قواعد عسكرية في الفلبين. ولكن ليس هناك من الأسباب ما يمنح لها الحق في التحالف ضدّ الصين والسعي لتطويقها، وهذا يثبت أن الولايات المتحدة تشكل أكبر تهديد للسلام والاستقرار العالميين ولا يثبت قوتها بأي شكل تدّعيه. وحتى الرئيس الأمريكي ليس في موقع قوة، إذ تعدّ نسبة تأييده الكئيبة البالغة 39 بالمئة في عام 2023 الأسوأ بين ثمانية رؤساء أمريكيين منذ جيمي كارتر.
لقد اتهم بيرنز الصين بقطع الاتصالات بين الحكومتين الأمريكية والصينية لكن يبدو أنه نسي أن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب هو الذي أنهى 90 آلية للحوار والتبادل رفيعة المستوى، وهي سياسة لم يتراجع عنها بايدن. من السهل على بيرنز أن يلقي اللوم على وسائل الإعلام الإخبارية الصينية لتشويه السياسة والمجتمع في الولايات المتحدة، لكنه يعلم تمام المعرفة أن الولايات المتحدة وقعت مرة أخرى في قبضة المكارثية، ومن المرجح أن تبلغ مهزلة “تقريع الصين” ذروتها خلال الحملة الرئاسية الأمريكية في عام 2024.
إن المشكلة في منطق القوة الذي تتبناه واشنطن هي أن الولايات المتحدة لا تتعامل أبداً مع أي دولة أخرى على قدم المساواة، لا الصين، ولا دول أفريقيا، ولاآسيا، ولا حتى أوروبا وهذا هو ضعفها الحقيقي الذي عرته الصين وكل دول عالم الجنوب التي بدأت تبتعد عن التحالف أو حتى التقارب مع هذه الدولة باحثةً عن دول تنادي بمبدأ التعادل أو التساوي في العلاقات بين الدول مهما بلغ حجم الدول وقوتها.