“الملفان” نوري اسكندر.. الأب الروحي للموسيقا السريانية
برحيل الموسيقار العالمي نوري اسكندر مؤخراً في مغتربه في السويد بعد مسيرة حافلة في عالم الموسيقا تفقد سورية العلاّمة الفارقة في كيان موسيقا الشرق وأحد أبرز موسيقيي السريان في العصر الحديث والأب الروحي للموسيقا السريانية وصاحب لقب “الملفان” و”ملفونو” والتي تعني بالسريانية “المعلّم” وقد استحق هذا اللقب عن جدارة، حيث كان مصدراً ومرجعاً للموسيقا السريانية التي اعتبرَها منبع الموسيقا السورية وإحدى أبرز مرجعياتها، لذلك وصفه الكثيرون بأنه حارس التراث السرياني وعاشقه.
كنز الألحان
يُعدّ نوري اسكندر من أكثر الباحثين والمؤلفين الموسيقيين السوريين اهتماماً بتوثيق الموسيقا السورية القديمة، ولا سيما السريانية التي حوَّلها من تراث شفهي معرض للضياع إلى مدوّنات جمعها في كتابين وفق نظام الكتابة الموسيقية الحديثة “التنويط” برعاية المطران يوحنا إبراهيم، وقد حملا عنوان “بيث كازو بالنوطة” أو “الموسيقا السريانية–كنز الألحان” ويُعدّ ما قدمه اسكندر فيهما جهداً غير مسبوق في مجال تدوين وتوثيق الموسيقا الكنسية السريانية، مع التطرق إلى الألحان وأوزان الشعر السرياني وخصائصه، وأكد اسكندر في أكثر من حوار على أهمية الموسيقا الآرامية والسريانية في المنطقة ككل: “هي ليست الحامل لتراث الكنائس فقط، وقد تأثرت بها الموسيقا الإسلامية والأغاني الشعبية في مجمل المنطقة، ومنها المواويل والعتابا والميجانا”.
مشروع موسيقي ضخم
كان نوري اسكندر يرى أن الموسيقا العربية ما تزال أمينة للمقامات الموسيقية المعروفة، وأن التعامل مع هذه المقامات بنيـّـة الحفاظ على التراث لم يتعدَّ القوالب والجمل اللحنية التي تهدف في نهاية الأمر إلى التطريب، في الوقت الذي كان اسكندر يؤمن فيه أن للموسيقا وظيفة أخرى غير الطرب ألا وهي اختراع الأسئلة المحرضة للتفكير والتأمل من خلال التجريد الموجود في الموسيقا الغربية والغائب عن الموسيقا العربية بسبب تعوّد الأذن العربية على الطرب وأمانة المؤلفين الموسيقيين للمقامات العربية القديمة واعتبار أيّ خروج عن المألوف فيها هو إما جنون أو هرطقة، لذلك سعى اسكندر إلى مشروع موسيقي ضخم يلخّص فيه تبحّره في الموسيقا الشرقية والغربية، مستفيداً من التأثيرات السحرية الموجودة في العنصر اللحني المركَّب الموجود في المقامات الشرقية ومزجها مع هارموني الموسيقا الغربية ضمن قوالب مفتوحة بأشكالها المختلفة: “كان عليّ في البداية التحرر من الفكر المسبق لكيفية التعامل مع المقامات بشكلها التقليدي، ثم بدأت رحلة البحث عن أشكال لحنية جديدة بقوالب مفتوحة عبر خلق لقاءات فنية جديدة وحوارات جدلية وتفاعلية، إضافة إلى إيجاد توليفات هارمونية تتناسب مع المفهوم الشرقي والمقامات، مع الحفاظ على روح المقامات الشرقية”.
عابدات باخوس
في مطلع العام 2000 أُسنِدت إليه مهمة التأليف الموسيقي لمسرحية “عابدات باخوس” للكاتب اليوناني الشهير يوريبيدس بعد أن زار حلب مسؤولو فرقة “زي تي” الهولندية المسرحية وقد أبدع فيها اسكندر وأضفى عليها روحاً موسيقية شرقية أبهرت الأوربيين عندما عُرضت في العام 2002 في بروكسل وفيينا وكولن وأثينا وأمستردام.. وعن هذا العمل يقول: “استغرق الإعداد للعمل فترة طويلة، ووظّفت فيه الألحان المأساوية في المدرسة الموسيقية الرهاوية والتراجيديا الإغريقية، حيث وجدت تقارباً كبيراً بين هاتين المدرستين، وكذلك عملتُ على إضفاء الروح الشرقية والموسيقا السورية بكافة ألوانها في المسرحية، مما لاقى استحساناً كبيراً لدى الأوربيين الذين سُحروا بهذه الأجواء البديعة” وكان اسكندر بعد استقراره في السويد يحلم بتقديم هذا العمل كعمل أوبرالي متكامل بعد إجراء تعديلات فنية ودرامية عليه،في الوقت الذي كان يؤلمه عدم وجود سيمفونيات عربية خالصة تضاهي السيمفونيات العالمية، معتبراً تجارب مثل تجارب أبو بكر خيرت في مصر وصلحي الوادي في سورية ووليد غلمية في لبنان محاولات ناقصة: “معظم الموسيقيين العرب ترجموا الأعمال الكلاسيكية الغربية وأدخلوا عليها صيغاً شرقية تفتقد النكهة المحلية ولم تقترب من صلب المقام الشرقي”.
أجواء موسيقية مهلهلة
في توصيفه لواقع موسيقانا يقول في أحد حواراته: “إنساننا العربي راح يجمّد المذهب الجمالي الطربي فاستسلم له وارتضى العيش في أجواء موسيقية رخوة ومهلهلة، الأمر الذي أضرّ به وبالمجتمع كثيراً.. وقد كرّس هذا الواقع أغلب الفنانين عندما اكتفوا بالاتكاء على هذا المجد الطربي ولم يتواصلوا مع نتاجات الموسيقا اللازمة للتجديد ولانتشال إنساننا من هذا الواقع” دون أن يخفي أنه في بعض مراحل النضال العربي استطاع بعض الفنانين أن يخرجوا على البوتقة التقليدية الطربية وعبّروا بإيجابية عن حالات لصيقة بإنساننا العربي في عدد من الأناشيد الوطنية:”استطاعوا أن يجعلوا من مقام الصبا مقاماً محارباً ومقارعاً، وهو المعروف بأنه رخو وحزين، فدللوا بذلك على طاقات المقامات التي لم تستثمر والتي يمكنها أن تخلق عوالم جديدة ورائعة، لكن أغلب محاولات التجديد ظلت متباعدة ولم يُتح لها التواصل والعمل الجماعي وتبادل الإمكانات، فكانت في أغلب الأحوال هادئة تنقصها الجرأة والديناميكية ما عدا الشجاع والمعبّر زياد الرحباني” مؤكداً دائماً أنه ليس مع الأفكار المسبقة في المقام، فالتراث ليس مُنَزَّلاً، لذلك راح يعالج المقام بتفكيكه وإعادة تركيبه في محاولات لاكتشاف أسراره وطاقاته الكامنة والتعبير ضمنه بالاستفادة من عطاءات الموسيقا العالمية في أعماله التي يبلغ عمرها نصف قرن.
عشق ومأساة
أثناء الحرب على سورية ولأن طموحه كان يسابق عمره قرر نوري اسكندر عام 2013 وكان قد تجاوز السبعين من عمره مغادرة سورية إلى السويد بعد أن ضاقت به الأحوال: “مازال في جعبتي الكثير من الأبحاث وأخشى أن تخونني قواي قبل أن أكمل أبحاثي في تحليل الموسيقا السريانية التراثية وأتمم تجاربي في العلاقات بين المقامات والأجناس الشرقية” لكن دون أن يغيب ما حل بسورية عن موسيقاه، حيث قام بتلحين قصيدة للشاعر إبراهيم الجرادي تتغنى بالشام عشقاً ومأساة، وكذلك قصيدة للشاعر الراحل أنسي الحاج الذي استشرف المأساة السورية من خلال الوجع الحضاري الذي عاشته.
نوري اسكندر
ولِد في دير الزور 1938 وترعرع في حلب.. كانت بداياته مع الفرقة الكشفية السريانية الأرثوذكسية في حلب كعازف ترومبيت، وبعد حصوله على الشهادة الثانوية سافر إلى القاهرة عام 1964 ودرس في المعهد العالي للتربية الموسيقية، وبعد عودته قام بالتدريس في مدارس حلب ودار المعلمين حتى العام 1989وشغل منصب مدير المعهد العربي للموسيقا في حلب من العام 1994 ولغاية العام 2003وشكّل وأسَّس العديد من الكورالات، منها أول كورال لكنيسة مار جرجس للسريان الأرثوذكس في حيّ السريان بحلب عام 1965تشكيل كورال ثان لكنيسة مار أفرام السرياني للسريان الأرثوذكس في حيّ السليمانية بحلب، تأسيس فرقة شاميرام في بيروت 1970 قدم في بيروت عام 1974 حفلة اليونيسكو التي قدم فيها أغانٍ شعبية سريانية بمشاركة الفنان وديع الصافي، أسّس في السويد جوقة “قوقوية” عام 1989 وكان أوج عمله معها بين العامين 2003 و2007 خاصة في مجال تسجيل أرشيف من الأغاني السريانية، ومن أشهر ما قدمه كمؤلف كونشيرتو العود وكونشيرتو التشيللو مع أوركسترا الحجرة وأسطوانة “الثلاثي الوتري”و”تجلّيات”وأغنيات صوفية،منها “ياواهب الحب” وموسيقا تصويرية لأفلام ومسرحيات ومسلسلات تلفزيونية..أقامت وزارة الثقافة بالتعاون مع مطرانية السريان الأرثوذكس في حلب حفلاً تكريمياً له تقديراً لإبداعاته ومساهماته الفنية والموسيقية المختلفة ودوره في إحياء التراث السرياني السوري.. نعتْه مجموعة “بيتنا السرياني” على فيسبوك: “برحيله تكون الأمة السريانية قد خسرت قامة موسيقية مبدعة وعلمية وفنية فذة.. لم يبخل الراحل يوماً في تقديم خدماته وتعليمه ونشاطه وعمله تجاه الموسيقى والفن السرياني، فخدم وجاهد بكل كفاءاته وقدراته لخدمة التراث السرياني وإثبات الهوية الفنية الموسيقية السريانية”.
أمينة عباس