جبران خليل جبران.. وفراغ الأزمنة
هويدا محمد مصطفى
يبدو أن جبران أميراً شرقياً مرتبطاً بنصوصه أيما ارتباط حتى يحار القارئ في هذا النسيج هل هو الرواية أم القصة؟ أم الخاطرة؟ بل القصيدة في فضاءات لا تحّدها الحغرافيا، ولا يكتشفها حتى الواقف على أعتاب المجهول نفسه… وفي الواقع هو كل هذه الأجناس الأدبية مجتمعة، وحين تواكب النصوص تشعر وكأنك أمام سيرة جديدة للأرض وخلفها تنام المدن في ثياب ضيقة، وأحياناً تنهض من وراء الخيام رصاصات الجائعين وبين هذا وذاك تشكل مروياته وكأنها بعض وريقات من شجر البندق الذي يكسر عادة في الأماكن الغنية لكن هذا الشجر لم يعجبه الموت في المنفى، ولا العيش على أطراف الكنائس فصاح من تحت اللحاف.. صرت غريباً…أريد مصحفي وقد يقرأ القارئ في هذه المكونات نوعاً من التناسخ الذي يمنح الثقافة الإنسانية حيويتها. وربما يصل المتأني في معانيه إلى بلد التناسخ الفعلي كما أعرف وهو الصين، حيث يقوم العميان بمشاركة الخرسان بصناعة الطائرات المقاتلة حتى لا يبقى في أحضان ذاك المجتمع الكبير واحد ممن ينام في العراء وحيداً دون عمل وثمة أمر آخر يشد القارئ إليها أيضاً وهو شعوره بأن أفكاره قد سبقت العولمات كلها وتصدت لها من خلال فوج عشائري في خيام اللغة… وربما غرق في الإمتاع أكثر فيرى (جبران) وقد هجر بلدته (بشري) الواقعة في ضواحي بيروت على ظهر ناقة (طرفة بن العبد) وهو يتأبط سيف الشنغري باتجاه الأمريكتين حيث أن اللغة هي الحكم الفيصل لقوم آخرين وعلى صراخ الحاسوب يطارد جبران كل حمولات الثقافة المضادة لينبش من الحوانيت البوذي الجائع، والهندي الأحمر .. والعربي التي تخجل من يده السكين وحين تتلفت لتتعرف على وجهه في هذا الزحام تراه واحداً من العرب الذين ودعوا الخيام في ليلة ماطرة ومع ذلك تظل النصوص بتراكمها المعرفي المثقل مرتبطة بجذور تاريخية وفلسفة وجودية ليس مصدرها استشراقياً كما يحلو للمفسرين أن يقولوا على الرغم من إقامة جبران الطويلة في ديار الغربة . وتكون الصور الحية التي نقلتها أفكاره بواسطة لغة لها من جمالية التأثير أهم المكونات السردية في عباءة النصوص حيث يرصد عبر هذه الصور طبيعة التحولات الاجتماعية ، والتاريخية، متجاوزاً كل العقابيل التي تمنح الحركة في سيرها باتجاه الأمم … ويأتي مع هذا الرصد التصدي لكل الشعوذات والخرافات باعتبارها إحدى مكونات الثقافة التي ينهل منها الكثيرون في بقاع شتى من هذا العالم، وربما كانت الأسئلة التي طرحتها أفكاره على المرجعيات الحية بما فيها الروحية منها قادرة على الانتقائية باعتبارها حاضناً معرفياً متجدداً ينتج في الخيال أكثر مما يحتاج إليه الواقع وهذا ما يمكن الوصول إليه عبر الدلالات والإيحاءات المكثفة التي تستولد من النصوص أنظمة أخرى للذوق، وإشعاعات للرؤيا التي ترتبط بكيانه، ويشهد عليها التفوق اللغوي في البنى التحتية التي صاغ منها مواقفه باتجاه الكون ومشروع الإنسانية الكبير ويقول في كتابه (المجنون) ص ١١_لا يا صاحبي عندما تبزغ شمس نهارك تدنو ظلمة ليلي ومع ذلك فإنني أحدثك من وراء ستائر ظلمتي، من أشعة الشمس الذهبية التي ترقص عند الظهيرة ، على متن الجبال، وعما تحدثه في رقص من الظلال المنسابة إلى الأودية والحقول، أحدثك عن كل ذلك لا تستطيع أن تسمع أناشيد ظلمتي، ولا أن ترى خفقان جناحي بين الكواكب والنجوم لأصل هذا النوم الهادئ في ظلمته الأرض وقرب مرافئ العيون الشامتة في حزنها، يخاطب جبران صديقه ليظل أميناً على مساكب الورد المعلقة على الجبال وخفقات الأجنحة فوق أعتاب الكواكب وبيادر النجوم… لكن هذا الخطاب الروحي الشفاف لن ينجو من العثرات إلا إذا استوطنت المحبة كل النفوس ولو اقتضت الظروف بعد هذا الوقوف في جرأة أمام محاكم التفتيش،ل يدلي المتهمون بشهاداتهم أن المحيطات الكونية الثلاث التي صحبها جبران (الماء-الجو-الأرض) لم تبدل من قناعته بأنه كجيولوجي عربي جاء من الصحراء ليحفظ عن ظهر قلب مدوناته منبهاً إلى ما يتركه استخراج المواد الكيميائية من باطن الأرض الأمريكية من أخطار فقد يسطو بعض الحمقى على فجاج الأرض في لحظة الغفلة وتحترق في ليلة خريفية كل كنوز العالم ومن أجل هذا البيت الكوني هذا هرب جبران من عالمهم دون أن يحتجب عن الناس فكانت الطبيعة ومافيها من كائنات هي ملاذه .
جبران والزواج في احتواء الذكورة
نرى أن عقدة الرجولة الجبرانية ليست موجودة في سرير المرأة ..فهو محب، ودود، يترك كل حدوده مفتوحة ليرى من خلالها الأنثى، وكانت علاقته بها ذات أوجاع حرة فرصتها طبيعته الشاعرية ومثاليته التي جاءت من الباب الواسع ليعيش معها عاشقاً، وزوجاً، وغريباً، ورسائله إلى (مي زيادة) واحدة من هذه الإشارات التي تجاوز فيه المحبوب ورش العمل الفاشلة في سرير المرأة إذ أن الظروف لم تكن ملائمة لخدمة حب هدفه احترام القوانين التي تنظم عمل تلك الورشة فالغربة التي كانت شبه قدر في حياة جبران كان لها ما يبررها لكتابة الرسائل ذات الفيض الوجداني المثير، المشبع بالعاطفة والبعيد عن الظنون فيما يتعلق بكرسي واحد، وملعقة واحدة، بل ووجبة إفطار تنشط فيها الحيوية بماكياج من نوع أخر يناسب العلاقة الزوجية وهو يعتقد أن صمت الخطاب الذكوري تجاه المرأة لا يعني الضعف وحده فقط وإنما يقف إلى جواره الشك القاتل في عدم فهم الحرية التي يجب أن تتمتع بها المرأة تحت سقف البيت أولاً والعالم ثانياً وفي باب الاعتراف بالآخر كان لجبران علاقات مضيئة في تجنيد قسم كبير من كتابته للمرأة قد تبدأ من الربع الخالي لتتجاوز بعد ذلك كل المحيطات، وهدفه أن يبني من مصطلح (النون) الخاصة بعالم النساء تفاصيل مدهشة في عالم جديد بحيث تبقى المرأة عروساً تمارس نعاسها،وأحزانها، وتنهض من نومها باسمة كالحبق ومع كل هذا الاهتمام بل التبرير العاطفي لبناء بيت أنثوي على خارطة النصوص والتي واجه بها جبران كل الاحباطات التي أصابت المرأة ليصنع لها مجداً في ذاكرة طفلة لم تسعفه الحياة لأن يعيش مع أنثاه التي أحبها وأحبته ولكن مؤاخاة الأحزان لم تكن مصادفة فقط بل كانت بديل عن سجل عدلي نظيف ترمي به الحياة في محكمة زواج شريف وحياة تملكها جهات أخرى غير الأحزان.
الأبعاد الصوفية في نصوص جبران خليل جبران
إذا كانت الأدوات التي يستخدمها الصوفي في علاقته مع الوجود والمقدسات أو يختبر بها هذه العلاقة عبر السلوك ونظام خاص بأدوات معرفية يجسدها السلوك والنظام معاً فإن جبران قد امتحن المجهول في لغته واستولد منها دلالات صوفية وحميمية أكثر امتداداً لكن في المجهول نفسه، ليقبص على الخرائط الإبداعية التي يكتشفها وحيداً، وهو ليس محايداً في علاقته مع الوجود أو مع المقدس بأن له موقفاً خاصاً به ولئن اتحد في جانب من هذا المقدس على طريقته الوجودية ،إلا أن نمزجة النصوص قد برهنت على ثقافة روحية عمادها الروحية الدينية والأسطورية من خلال توظيف فلسفي بأحكام خاصة وبناءات طوفانية على معابر اللغة والخيال وجدولة المعنى وتبدو هياكل الاستعارات واحدة في خواتيم النصوص يقول في كتابه (رمل وزبد) ص ٢١٧
/لايكسر الشرائع البشرية إلا اثنان: المجنون والعبقري، وهما أقرب الناس إلى قلب الله/ ليس المجنون من فقد عقله ومازال يبحث عنه في المشافي، بل الجنون حاجة فعلية لمقاومة ما يجري في سلوك المتطفلين، وهو مواجهة حقيقة لابد منها لكل مبدع حتى يتقرب من حزبه البشري وليس السياسي والناس هنا في رأي جبران حزبان: حزب يلعن، وحزب يثني، وعبر هذه الحزبية ينتقي جبران نصوصه الروحية وأدواته المعرفية ليصوغ منها تجربته الصوفية المخالفة للآخرين على الرغم من قراءته المتأنية للمقدسات، وفي مقدمتها الكتاب المقدس.. وقوف جبران على عتبات نصوصه، واختراقه جدران الأساطير يدلل على أنه يشكل مرجعية طاعنة في السن ، تضيء معالم الإبداع في مسكب فني لا يجيد استخدامه وزراعة الورود فيه غيره … ويمكن القول أن جبران في نصوصه قد استولد النص من النص نفسه، والتناص من التناص من خلال مطبخه اللغوي وحملت نصوصه سينوغرافيا من المشاهد التي صنعتها لغته، وكان فيها المسرحي المتأصل ولاسيما أنه القابض على رأسماله في لمسة ربانية استعار فيها من السماء طوافه حول دولة الأحلام ومناوراته برهان على التأمل في عفوية نادرة وفطرية عارية إلا من شقوق يديه حين يمسح عن الوجود ظله المتعب،وعن الجداول صمتها حين تغفو الينابيع.