الصفحة الاخيرةحديث الصباحصحيفة البعث

أخلاق

عبد الكريم النّاعم 

توفّر الأخلاق البنّاءة، في أيّ  مجتمع، هو شرط في البناء، كما أنّه شرط في النموّ والاستمرار، وكذلك حين تنحدر فهو شرط في سقوط الأمم. وتختلف الأخلاق بين زمن وآخر، فما كان طيّباً فيما مضى قد لا يكون كذلك بعد أزمنة، والعكس صحيح. وما يشهد بذلك تحوّلات قيمة الأخلاق في بلدان الغرب، فما كان مُداناً بالأمس هو غير مُدان الآن.

يقول غوستاف لوبون: “إذا أمعّنا النّظر في أسباب سقوط الأمم التي يذكرها التاريخ بلا استثناء، لا فرق في ذلك بين الروماني، أو العجمي، أو غيرهما، لوجدنا أنّ العامل القويّ في انحلالها تغيّر طرأ على مزاجها ترجع علّته إلى انحطاط في الخلق”.

لقد ذكر ذلك قبل لوبون القرآن الكريم، مشيراً إلى أخلاق النبوّة، والتي هي المشعل المضيء للطريق المنشود، فقال في القرآن الكريم عن أخلاق الرسول (صلوات الله عليه وآله): “وإنّكّ لَعلى خُلقٍ عظيم”، وتوفّر الأخلاق النّظيفة البنّاءة التي يحتاجها المجتمع أفراداً وجماعات هو شرط في الاستمرار الراضي المَرْضي، فإذا حدث خلل، فذلك يعني بداية تغيّر قد يودي إلى ما هو أسوأ إذا لم يتمّ تداركه.  وحين تفشّتْ المفاسد تاريخيّاً في بغداد والقاهرة ودمشق والأندلس، سقطت حصون الدّفاع المتينة، وكان ذلك مقدّمة للاجتياحات المدمّرة الوافدة من الخارج، وهذا ينطبق على كلّ الأزمنة المُشابهة التي عرفناها.

لقد كانت الأخلاق الرضيّة، البنّاءة، عنواناً في تصرّف الأنبياء (صلوات الله عليهم)، وتمتّعوا بعمق الحكمة في التعاطي مع المجتمع الذي كُلِّفوا بهدايته، فقد كان قوم كلّ نبيّ قبل بعثته على طريق وعر من الانحراف عمّا يُرضي الله، وما يُرضي الله لا يكون إلاّ في صالح العباد، وحين يباشر دعوته يجسِّد الأسلوب الأرقى والأنقى، معبَّراً عنه بالجدال الذي يعني التّوضيح والهداية، لا جدال المماحكة. فقد جاء في القرآن الكريم: “وَجادلْهم بالتي هي أحسن”، بالرّحابة، واللّين، والرقّة، “فإذا الذي بينك وبينَه عَداوةٌ كأنّه وليٌّ حميم”. وأشار القرآن الكريم إلى عِظَم تحقّق ذلك فقال: “وما يُلقّاها إلاّ الذين صبروا، وما يُلقّاها إلاّ كلُّ ذي حظٍّ عظيم”. ولقد التزم بهذا السلوك الربّاني المُوحى به جميع الأنبياء، فها هو سيّدنا نوح، كما ورد في القرآن الكريم على لسان قومه الذين لم يستجيبوا، فعمّهم الطوفان: “يا نوحُ قد جادلْتَنا فَأَكْثرتَ جدالنا”. وإذا كانت المسافات واسعة مع معظم الأنبياء، فإنّها تكاد تبدو قريبة لآخر الرسالات المحمولة من السماء. وها هو الرسول الأعظم (ص) يوصي مَن أرسلهم للتصدّي لِما يبيّته أعداؤه المجاورون: “لا تقتلوا شيخاً، ولا طفلاً، ولا امرأةً، ولا تردموا بئرا”، وهذه أخلاق أكثر من رائعة حين نأخذها في زمنها، وهي الصالحة لكلّ الأزمنة، حيث كانت غارات الأعداء تعني تدمير كلّ ما يطاله التّدمير.

إنّ ما سبق يعني أنّ كلّ نهوض يُفترَض أن يُقام على أسس أخلاقيّة نقيّة نظيفة، عادلة، حازمة، لتحصين جسم المجتمع من تسلّل الفيروسات الفتّاكة، إنّنا حين نوقظ شيئاً من الذاكرة فليس بهدف الجمود بل طلباً لِما هو أعلى وأكمل، لا سيّما وأنّ الضخّ المعادي في هذا العصر ما يكاد يتوقّف ثانية واحدة، عبر الفضائيّات، وعبر الموبايلات، فأصحاب السيطرة الماليّة والتكنولوجية، العاملون لصالح الشركات العابرة، لا يعرفون ربّاً، ولا قيمة إلاّ المال. وهم من أجل تصريف بضائعهم المتعدّدة مستعدّون لخوض حروب لا تنتهي، لأنّهم في توجّهاتهم الربويّة إمّا أن يكونوا وإمّا أن يكونوا، وهذا يجعل مهمّة النّهوض شاقة وعسيرة وقد يتهيّب منها المتخاذلون، ولا يحملها إلاّ الأمناء الأخلاقيّون…

aaalnaem@gmail.com