وحده الضمان يحمي المرضى من غلاء الأدوية!
علي عبود
نعم، لا يمكن إغلاق معامل الأدوية، بل يجب أن تزيد إنتاجها بما يفيض عن حاجة السوريين من معظم الزمر والأصناف، بدلاً من استيرادها أو دخولها تهريباً إلى سورية.
وبالمقابل، هذا ليس مبرراً لعدم توفير الأدوية، وخاصة النوعية لمحدودي الدخل، فنحن هنا أمام قضية تتعلّق بصحة المجتمع التي تؤثر حتماً على تراجع معدلات التنمية، بل قد تُعرّض الكثيرين للعجز والموت، وبالتالي على الحكومة أن تعمل بالتوازي على تأمين الدواء لمحتاجيه، إما مجاناً أو بأسعار لا تشكّل نسبة كبيرة من أجرهم الشهري.. فهل هذا الأمر صعب؟
المنطق يقول إن المعامل لا يمكن بيع ما تنتجه من أدوية بأسعار أقل من تكلفتها، وبالتالي فرفع أسعار الأدوية بما يفوق قدرة المرضى ليس مشكلتها ولا مسؤوليتها، بل هي مسؤولية الحكومة الملزمة بتأمين صحة المواطنين وفق الدستور.
ومن الملفت، بل والمستغرب جداً، أن تردّ الحكومة على هجوم العمال على قرارات رفع أسعار الأدوية، بالقول إنه لا يمكن إغلاق المعامل جراء التكاليف العالية لمدخلات الإنتاج، وبأن الأسعار العالمية مرتفعة.. وهذا جانب منطقي من الواقع، ولكن ماذا عن الجانب الآخر من المنطق وهو: لا يمكن بقاء المرضى بلا أدوية بسبب عجزهم عن شرائها؟!!
وإذا كانت النقابات المهنية كالتنظيم العمالي، أو التي تتمتّع بموارد مالية دسمة، كنقابة المهندسين تمكّنت خلال العقود الماضية من تأمين الوصفات الطبية مجاناً، فإنها اليوم عاجزة عن تأمينها حتى بسعر أقل من تكلفتها، فما الحل؟
ولا ننسى أن الكثير من الجهات العامة لم تتوقف عن صرف وصفات الدواء فقط، بل توقفت عن تقديم الوجبات الغذائية لعمالها، ووصل الأمر من خلال شهادات لكثير من المرضى بأن راتبها التقاعدي بالكاد يكفي شراء بعض أدويتها التي تحتاجها شهرياً.
صحيح أن الحكومة لاتزال تقدم الخدمات الصحية مجاناً، بما فيها الأدوية النوعية الباهظة الثمن، لكن هناك آلاف المرضى يحتاجون في منازلهم إلى أدوية دائمة ومكلفة جداً.. فماذا يفعلون؟
المعادلة المطروحة منذ عامين على الأقل: توفر الدواء بأسعار عالية أفضل من فقدانه بإغلاق المعامل!
هذه المعادلة هي لصالح أصحاب معامل الأدوية والقادرين على شرائها، ولكن لماذا لم يطرح التنظيم العمالي معادلة أخرى أيضاً وهي: توفير الدواء للمحتاجين أفضل من تدهور صحة المجتمع والاقتصاد؟!
لسنا بحاجة إلى ابتكار حلّ يجمع بين المعادلتين، أي تبقى معامل الأدوية مستمرة بإنتاج زمر جيدة بمواصفات قياسية من جهة، وتأمين الأدوية لمن يحتاجها مجاناً، نعم مجاناً، من جهة أخرى.
الكثير من دول العالم لديها ضمان صحي شامل، سواء للفحوصات المختلفة وللعمليات أو لصرف الأدوية، يتحمّل تكلفته أرباب العمل والعمال من خلال أقساط شهرية أو أسبوعية يدفعونها للمؤسسة المكلفة بتطبيق الضمان، وقد فوجئت في إحدى المناسبات عندما اكتشفت أن المرضى المغتربين المتقاعدين تزودهم مؤسسة الضمان في بلدانهم باحتياجاتهم من الأدوية لمدة ثلاثة أشهر أثناء زياراتهم للوطن الأم، وإذا نفدت أدويتهم يمكنهم طلب المساعدة من السفارة!
وقد لا يعرف الكثيرون أن اهتمام الحكومات المتعاقبة بالضمان الصحي يعود إلى ثمانينيات القرن الماضي، بل إن مجلس الشعب أقرّ قانوناً للضمان حينها لم يُطبق بفعل اعتراض التنظيم العمالي لأنه وجده غير كافٍ ولا يلبي احتياجات الطبقة العاملة بأجر، واستعيض عن القانون بصناديق في المنظمات والنقابات المهنية والعمالية التي لعبت دور الرديف للقطاع الصحي العام بتأمين الدواء والاستطباب مجاناً لملايين السوريين؟
الخلاصة: الوضع الآن اختلف جذرياً، لا القطاع الصحي العام، ولا صناديق الضمان، قادرة على تأمين الاستطباب والأدوية لمحتاجيها من محدودي الدخل، والحلّ الذي سبقنا إليه الآخرون هو بصك تشريعي يؤسّس لقيام مؤسسة ضمان صحي وارداتها من اشتراكات أرباب العمل والعمال، مع دعم مالي من الدولة يؤمّن الاستطباب والدواء مجاناً للمشتركين أو بأسعار رمزية لا ترهق دخلهم الشهري؟!