الحضارات لا تتصادم بالضرورة
هناء شروف
أصبحت الحضارات اليوم أكثر ترابطاً من أي وقت مضى، وأصبح مصير الشعوب في جميع أنحاء العالم مصيراً واحداً، ويتفق المجتمع الدولي على أن الحضارات ينبغي أن تكون شاملة للجميع وأن تعمل بشكل مشترك على تعزيز التنمية. ومع ذلك فإن نظرية “صراع الحضارات” التي تدّعي أن الصراعات الرئيسية في السياسة العالمية سوف تحدث بين الدول ومجموعات من الحضارات المختلفة، كانت رائجة حتى وقت قريب.
مع نهاية الحرب الباردة لم تعُد العلاقات الدولية تقتصر على دراسة وتفسير حدث واحد أو تحديد أيديولوجية، وأصبح الاهتمام أكبر بالاتجاهات العالمية. وبينما تظهر أفكار ونظريات جديدة لتوجيه العالم في الاتجاه الصحيح يبذل بعض الناس قصارى جهدهم لوصف بعض الدول بأنها معارضة ومنافسة للولايات المتحدة التي تسعى إلى الهيمنة الأحادية القطب.
وفي هذا السياق، طوّر عالم السياسة بجامعة هارفارد، صموئيل هنتنغتون، نظرية “صراع الحضارات” التي تتميّز بثلاث سمات رئيسية مميزة، أولاً: في العصر الجديد سيكون السبب الرئيسي للنزاعات والصراعات البشرية هو الاختلاف بين الحضارات والثقافات. ثانياً: إن الاختلافات بين الحضارات والثقافات ليست حقيقية فحسب بل إنها أساسية أيضاً. ثالثاً: دفعت العولمة الاقتصادية والإقليمية الحضارات إلى تأدية دور أكبر في العلاقات الدولية وزادت من احتمالات الصراع بين الحضارات.
تعكس وجهات النظر المختلفة حول العلاقات بين الحضارات وجهة نظر هنتنغتون الشخصية العالمية ووجهات نظره الحضارية. وحسب هنتنغتون فإن التحدي غير الغربي للغرب في ذروة القوة آخذ في الازدياد، وتزايدت احتمالية “صراع الحضارات” بشكل كبير، وخلص إلى أن الصراعات العالمية الكبرى في المستقبل ستكون بين دول ومجموعات ذات سيادة وخلفيات حضارية مختلفة في هذا العالم الجديد. ولن تكون الصراعات الأكثر انتشاراً وأهمية وخطورة بين الطبقات الاجتماعية أو الأغنياء والفقراء أو غيرها من المجموعات المحدّدة اقتصادياً فحسب، بل بين شعوب تنتمي إلى كيانات ثقافية مختلفة كما ادّعى هنتنغتون.
واستناداً إلى افتراض مغلوط أكّد هنتنغتون أن الخط الرئيسي للصراعات السياسية في عالم ما بعد الحرب الباردة سيكون “صراع الحضارات”، وهو ادّعاء بعيد كل البعد عن النظرية البنّاءة والممارسة السياسية.
إن إدخال الحضارة كمتغيّر مهم في دراسة العلاقات الدولية كان في الأصل مسألة أكاديمية؛ حيث ساعد في تعميق وتوسيع النظرية السياسية الدولية. لكن لا أساس لرفع “الحضارة” إلى مرتبة أهم من المصالح الوطنية والاقتصادية. لقد أثبت التاريخ أن نظرية “صراع الحضارات” خاطئة ومن الحماقة افتراض أن حضارة المرء متفوّقة على حضارات أخرى.
ولم يخفِ المجتمع الأكاديمي الدولي شكوكه بشأن نظرية “صراع الحضارات”، حيث شكّك الأكاديميون في تركيز هنتنغتون الأحادي الجانب على الصراع والعداء بين المجتمعات والحضارات المختلفة. على سبيل المثال كيف يمكننا تقييم أدوار العولمة الاقتصادية وتحديث الاتصالات في زيادة التبادلات وتكامل المصالح بين الدول؟ هل ينبغي لدولة ما أن تواجه التحدّيات العالمية المشتركة المهمّة وحدها أم يجب على جميع الدول أن تتضافر لمواجهتها؟.
لم يقدّم هنتنغتون ولا أنصار نظريته إجاباتٍ مقنعة على مثل هذه الأسئلة. وبما أن هنتنغتون يتمسك بقوة بالموقف الغربي فإن نظريته متجذّرة في الوسطية الغربية وتمليها سياسات القوة المهيمنة وتفكير لعبة المحصلة الصفرية لدى بعض الناس في الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى. والأمر الأكثر أهمية هو أنها أصبحت جزءاً من المخطط الاستراتيجي لاحتواء التنمية في الاقتصادات الناشئة والدول النامية مثل الصين وإضعاف الدول غير الغربية.
هناك أكثر من 200 دولة ومنطقة ومجموعة عرقية متنوعة والعديد من الأديان في العالم، وتتمتع هذه البلدان بتاريخ وثقافات وأنظمة اجتماعية مختلفة وهي السمات المتأصّلة في الحضارة، ولا يمكن أن تكون هناك حضارة دون التنوّع وسيستمر التنوع طالما وجد الإنسان.
هناك حاجة إلى أن تتبع الدول اتجاهات التنمية العالمية، وتعزيز المفاهيم الحضارية التي تؤكّد قيم المساواة والتعلم المتبادل والحوار والشمولية. إنهم بحاجة إلى احترام بعضهم البعض ومعاملة بعضهم البعض على قدم المساواة وقبول التنوع الحضاري واحترام الاختلافات في الأنظمة السياسية والاستفادة من نقاط قوة بعضهم لاستكشاف أسس جديدة للتنمية من أجل المساهمة في تقدّم الحضارة.
إن سخافة نظرية “صراع الحضارات” تدلّ على الأهمية الكبرى لمؤشر صراع الحضارات وصحّة أساسه النظري. لذلك يتعيّن على جميع البلدان تعزيز السلام والتنمية العالميين وتعزيز الحضارات والتبادلات والتعاون واستكشاف تدابير مبتكرة لإنشاء شبكة عالمية من الحوار والتعاون بين الحضارات، وتعزيز التفاهم المتبادل والصداقة بين الشعوب وكسر الحواجز الروحية التي تعيق تحقيق السلام العالمي، والعمل معاً لضمان التعايش المتناغم بين الحضارات المختلفة والتقدم المستمر للحضارات نحو مستقبل مشرق.