عن البعث المتجدد وأنموذج الدولة الجديدة
بسام هاشم
من الواضح تماماً أن كلمة الرفيق الأسد في افتتاح دورة أعمال اللجنة المركزية لحزب البعث قلّبت جمراً كاد يخمد في الحياة الداخلية، وأطلقت العنان لمخيلة الكثيرين في مقاربة مستقبل سورية خلال المرحلة القادمة، بل وسارع البعض للإدلاء بوجهات نظرهم والتبرّع بالشواهد والأمثلة.
ولا شكّ أن كلمة سيادته شكّلت بالنسبة لكثيرين نوعاً من المفاجأة، ولكنها مفاجأة منتظرة في جميع الأحوال، فالرفيق الأسد هو الأدرى بـ “الساعة البيولوجية” السورية – إن كان بالوسع استخدام هذا المصطلح – وهو الأعلم بالسياقات والظروف المحلية والإقليمية والدولية التي تجعل من أي قرار داخلي خطوة أو مبادرة ناجحةـ، في توقيتها، مع التأكيد على أن أي قرار هو – في المحصلة النهائية – إجراء محلي صرف ينبع من، ويصب في، المصلحة الوطنية.
وللتذكير، فقد كان مشروع الإصلاح في صلب تفكير وعمل وطموح الرفيق الأمين العام منذ تسلمه الأمانة العامة للحزب ومقاليد الرئاسة. ولقد أدرك منذ فترة مبكرة، أن الإصلاح الحقيقي – و”الآمن” – لا بدّ أن يمرّ عبر حزب البعث، أو من خلاله، باعتباره القوة الجماهيرية والتنظيمية التي تخترق كل الشرائح الاجتماعية والاقتصاددية (ولن نقول طبقات فلا صراع طبقياً في تاريخ سورية)؛ ذلك أن “البعث” استمد حضوره ودوره أساساً من كونه تشكيلاً وطنياً عابراً للأطياف والمكونات، وينطوي، في المقام الأول، على رسالة وحدوية جامعة.
والسؤال الكبير الذي يطرح نفسه هاهنا: هل ستكون الكوادر البعثية على مستوى المسؤولية التاريخية المناطة بها في “مرحلة ما بعد الحرب” (مع أن الحرب لم تنته، ولن تنتهي طالما أن الصراع العربي قائم مع الصهيونية، وأن سورية متمسكة بحقوقها ومبادئها)؟ وهل نتصرف كما لو أن الأمر ينطوي على قطيعة كاملة مع الماضي، والانخراط في بناء أنموذج جديد للدولة.. أي أنموذج؟
قد يتخيل كثيرون أن المسألة لا تعني شيئاً آخر سوى إدارة الظهر للماضي والارتماء في أحضان “دولة مدنية” (هكذا يسمونها!) مفرغة من أي مضمون عقائدي أو “ايديولوجي”، أو حتى “ديني”، أو حضاري، أو “رسالاتي”، ويوغل البعض أبعد في الحديث عن “دولة بلا أنياب” تكتفي بوثائق منظمة الأمم المتحدة للدفاع عن مصالحها.. دولة أضعفها الحصار والعقوبات بحيث يتعين عليها الاكتفاء بلقمة عيشها، وأن حصيلة العقد الأخير كافية لتقودنا صاغرين إلى مثل هكذا أنموذج يتأسس على “ثقافة العيش”، أو “ثقافة الحياة”، التي باتت مطية رائجة لكل الذرائعيين والإنهزاميين الذين يصرفون ثقافتهم السياسية في خدمة الترويج للتطبيع مع “إسرائيل”، أو الدعوة لنفض اليد من المقاومة، والالتحاق – تالياً – بالمعسكر “الآخر”.. بمعنى التخلّي عن سورية “الرقم الصعب”، و”الخط الأحمر”، و”الدور الذي لا يمكن تجاوزه”، و”قلعة الصمود”، إلى ما هنالك من “أدبيات” يعجّ بها الخطاب السياسي في سورية، مغفلين حقيقة أن الحرب بدأت بعدو وجودي واحد، هو “إسرائيل”، ولكننا اليوم، وبعد أكثر من عقد من الزمن، في مواجهة جحافل “أعداء” لا يقلّون ضراوة ومطامع وعدوانية، وأننا وسط محيط عربي مهلهل، متفسّخ، وبيئة إقليمية تلعب على التطرّف العرقي والطائفي وتنتهج الاستيطان والاستيلاء على الأرض وتسفر عن نزعة توسعية مكشوفة، وأن العيش في الشرق الأوسط بات أكثر تكلفة وعبئاً من نواحي كثيرة، سياسية واقتصادية واجتماعية وحتى أخلاقية، وأننا إذا كنا نتحدث عن الحريات فلأننا نريد بناء دولة وطنية أشدّ منعة، ومجتمعاً أشدّ تماسكاً وحصانة ذاتية، وقدرة على الدفاع عن نفسه ومكتسباته.. دولة وطنية قوية وفق المعايير المعاصرة، ومجتمعاً يتطلّع إلى التحديث الحضاري في أرقى أشكاله رفعةً وتقدميةً.
لن تكون سورية نيو ليبرالية كما يتوهم البعض، وهي بالتأكيد لن تكون متزمتة رجعية، ولا متطرّفة قومياً .. ستكون نوعاً من ليبرالية محافظة، تلتزم العادات والتقاليد الأسرية والمجتمعية والروحية والسياسية الخاصة بالمشرق العربي، والتي كان “البعث” أحد أكبر المساهمين في صيرورتها التاريخية. والمهم أن ذلك يتأسس في جزء كبير منه على أنموذج التغيير الذي سيتبناه البعث لنفسه، ولنقل سيبدأ به، وليس عبر “وصاية” ولا “مادة ثامنة”، بل لأن “البعث المتجدد” سيكون البوتقة التي ستعيد صهر كل مكونات ما بعد “الانتصار في الحرب”، و”الانتصار على الحرب”، في إطار مفهوم “الوطنية الحضارية” المشتقة بدورها من “العروبة الحضارية”، في علاقتها التبادلية مع العروبة، بفضاءاتها اللغوية والثقافية، ومع الإسلام العربي، ومع المسيحية المشرقية، والتي طالما تناولها الرفيق الأمين العام في مناسبات كثيرة، وبصيغ مختلفة.
لن يكون “بعث الردّة”، ولا “الارتداد”.. سيكون أشبه بالعودة إلى روحية البدايات الصوفية والإشراقية التي ألهمت الشباب السوري والعربي في خضمّ معركة الاستقلال التي واكبت التحولات العالمية وبناء عوالم جديدة، قبل أكثر أو أقل من ثمانين عاماً.