ثقافة التلقي وأبجدية الحضور
غالية خوجة
أن تكون مدنياً يعني أن تكون لديك أبجدية ثقافية تساعدك على التعامل ضمن علاقاتك المتنوعة كفرد في الأسرة والمجتمع، وأن تكون حضارياً فهذا يعني أن تبدع في ثقافة التعامل المبنيّة على ثقافتك الذاتية المستمدة من جذورك الحضارية وانتمائك وهويتك، فتتفاعل بأسلوب يشبهك وجذورك وما طوّرته بنفسك في حيويتك بجمالية تُميزك بكل تأكيد.
ولن نستغرب حين يكون الطعام ثقافة أيضاً، لأنه يعكس بدلالاته تفكير مزارعيه وطابخيه وآكليه، وبكلّ تأكيد للحضور دلالاته المختلفة وآدابه وأبجديته المنعكسة من الذات والبيئة، سواء أكان حضوراً مع العائلة، أم في المدرسة، أم الجامعة، أم مكان الأنشطة والفعاليات الثقافية والفنية والاجتماعية.
وليكون الحضور متفاعلاً لا بدّ أن يكون مدركاً لكيفية هذا الحضور، كيف يستمع، ويتواصل، ويفكر، وينتقد، وكيف يقدّم مداخلة لا تخرج عن الموضوع المحوري، بل تضيف إليه، ويثير أسئلة تساعد على إغناء الفكر للجميع؛ ومدركاً متى يتفاعل، بعيداً عن الضجيج والضوضاء والشغب، ومتى يصفق أيضاً، لأن هناك من يحضر ليصفق حتى لو كان يستمع لأمسية موسيقية كلاسيكية، فيصفق حين لا يجوز التصفيق، وكأنه لا يفرق بين فرقة الدبكة وفرقة الأوركسترا، وكذا..، يفعل مع أي عرض مسرحي حتى لو كان المشهد ذبّاحاً!.
وليكون الجيل الشاب مستعداً لتطوير خبرته في التلقي، له أن يلتمس معادلة توظيف حماسته في اللحظات المناسبة، فلا يعقل في أمسية أدبية أن يتمّ تشجيع المواهب بالتصفيق فقط والحماسة، إضافة إلى بعض التكتلات الناشئة التي تظنّ أنها إذا حشدت جمهوراً مشاغباً ومصفقاً، مثلاً، تكون قد نالت اعترافاً بشاعرية وأدبية وموهبة من تشجعه بهذه الطريقة.
وضمن هذا المحور بين سلوك الإنسان في الحياة الخاصة والعامة، والتلقي، كتب أهم النقاد والأدباء والمفكرين عن سرّ هذه العلاقة القائلة: “لا جمالية في التلقي إلاّ بتربية الذوق الجمالي للمتلقي”، وأهمية التواصل البلاغي والمعرفي والثقافي والفني بين علاقة النص كرسالة، والمؤلف كمرسِل، والمتلقي كمرسَل إليه.
وفي حال التقارب بين جميع هذه العناصر والعوامل يكون المتلقي شريكاً للمؤلف في النص كرسالة إبداعية، سواء أكان هذا النص لغة مكتوبة أم بصرية أم سمعية أم مرئية، وستكون النتيجة تعاملاً فنياً راقياً أثناء حضور مسرحية، أو حفلة موسيقية، أو أمسية أدبية، أو ندوة فكرية، أو فيلم، أو عرض على أي شاشة إلكترونية.
وفي حال تمتع المتلقي بهذه الذائقة الجمالية وعمقها المعرفي، يستطيع أن يكون مرسلاً للمؤلف، فيتمّ تبادل الأدوار، ويصبح المرسِل الأول مرسَلاً إليه ثانياً، وهنا، عليه أن يعكس ثقافةَ المتلقي بعدما يكون قد أرسل ثقافةَ المؤلف.
ويساهم هذا التفاعل الإيجابي المتحول في تطوير المشهد المعرفي عموماً، ويساعد على ابتكار نظريات جديدة في التلقي والإبداع، ويؤهل لاكتشاف المواهب المكنوزة بين الأجيال، كما يسهم في ارتقاء الحياة الخاصة للفرد، وفي ارتقاء حياة المجتمع، ما ينتج إيجابيات عدّة، منها ردم الفراغات الناقصة بين الأطراف، والعمل على شعشعة علاقات بنائية معاصرة، متداخلة ومتحركة ومؤسسة لبنية جمالية فكرية تكون، بدورها، المحرك الأساس لصياغة الحياة ـ الحياة كرسالة بين المرسل والمرسل إليه وعلاقتهما التبادلية المنسجمة ـ بأبعاد جديدة وفضاءات أكثر شمولية ضمن متحولاتها المناسبة، وأكثر حركة في معادلة كلّ من الإنتاج والتلقي والتواصل.
ولا بدّ من الإشارة إلى أن الجمهور يختلف عن المتلقين، لأن دلالة الحشد الأول تشمل ذائقة العامة المتفاوتة من منظور ثقافة التلقي والمنهجية الفنية المعرفية ومستويات الحساسية واختلافاتها التي قد تكون متباينة، وهذا مؤشر آخر على دلالة “الأكثر” قراءة ومشاهدة ومتابعة ومبيعاً، لا إبداعاً، لأن الأكثر هنا تعني الجمهور لا المتلقين.