للعام الثاني على التوالي.. محصول الذرة الصفراء في دائرة الخطر!!
لن يُصدّق أيّ فلاح أن وزارة الزراعة عاجزة عن تأمين المجففات الكافية لمحصول الذرة الصفراء، وإذا كانت الجهات المخطّطة في الوزارة فوجئت بالكميات الكبيرة المنتجة من الذرة في الموسم الماضي، وكان لديها العذر بعدم الاستعداد لها بالمجففات، فما مبررها في الموسم الحالي أمام الفلاحين الذين صدقوا أن أزمة المجففات ستحلّ خلال أشهر بأموال القطاع الخاص؟!.
ربما توقعت وزارة الزراعة أن الفلاحين سيحجمون عن زراعة الذرة بكميات كبيرة، مثلما فعلوا مع محاصيل أخرى عرّضتهم لخسائر جسيمة بفعل الدعم المحدود جداً للمحاصيل الاستراتيجية أو لغيرها من الزراعات، وبالتالي تركت مهمة تأمين المجففات للقطاع الخاص، وهو لم يهتمّ بالأمر، فكانت النتيجة التي تكشّفت خلال الأسابيع الأخيرة أن محصول الذرة الصفراء وللعام الثاني على التوالي دخل دائرة الخطر بفعل تقاعس وزارة الزراعة وعدم ضغطها على اللجنة الاقتصادية للموافقة لمؤسّسة الأعلاف على شراء المجففات الكافية لمحصول أساسي لقطاعات أخرى كالدواجن وصناعة الزيوت النباتية.
السعر المجزي.. لمن؟
ومن المهمّ الإشارة إلى أن المؤسسة العامة للأعلاف حدّدت سعر الطن الواحد من مادة الذرة الصفراء المحلية بمبلغ 4.45 ملايين ليرة للطن، أي بـ4450 ليرة للكيلو الواحد، لكن السؤال: لمن هذا السعر المجزي؟.
هو قطعاً للفلاح الذي سيلتزم بشروط المؤسّسة فقط، وهي شروط واضحة جداً: لن يتمّ شراء سوى الكميات المجففة آلياً مرفقة بشهادة منشأ من صاحب المجفف مباشرة!، وألزمت مؤسسة الأعلاف أصحاب المجففات، وهم قلة، بتقديم قائمة بأسماء المزارعين موقعة من مديرية الزراعة، وأن يكون ممثل عنها مشرفاً فنياً بموقع المجفف!.
لن نتحدث عن حجم الوساطات والرشاوى التي ستكثر خلال عمليات تسويق محصول الذرة الصفراء للفوز بدور لتجفيف محاصيل الفلاحين، لكن من المؤكد أن قلة المجففات ستدفع بالكثير من المنتجين الذين جففوا محاصيلهم تحت أشعة الشمس، إلى بيعها بأثمانٍ أقل من تسعيرة المؤسسة إلى تجار الأعلاف.
والسؤال المعروفة إجابته جداً: لمصلحة من رفضت اللجنة الاقتصادية العام الماضي، ولا تزال تتريث بالموافقة لمؤسسة الأعلاف على شراء مجففات للذرة الصفراء؟.
من يربح على حساب الفلاح؟
وخلافاً لما يُقال أن التجار فقط من استفاد من قلة المجففات في محافظات الإنتاج، وغيابها في محافظات أخرى، فمؤسسة الأعلاف التي ستستلم الذرة المجففة آلياً فقط هي أيضاً من الرابحين من أزمة المجففات.
فإذا كان أصحاب المجففات سيستغلون المنتجين برفع أسعار التجفيف لأن الطلب عليهم كثير، وإذا كان تجار الأعلاف سيستغلون حاجة الفلاحين لبيع محصولهم دوكمة، سواء أكان مجففاً يدوياً أم بلا تجفيف، فإن الرابح الأكبر قد يكون مؤسسة الأعلاف دون أن تتحمّل أعباء تجفيف الكميات المستلمة كما يفترض بجهة حكومية تدعم الزراعة، وخاصة محصول استراتيجي كالذرة الصفراء.
مدير عام مؤسسة الأعلاف المهندس عبد الكريم شباط بين حجم الأرباح التي ستجنيها مؤسسته من موسم 2023 فقد أكد (أن مجلس إدارة المؤسسة وافق في اجتماعه الأخير على تعديل سعر مبيع مادة الذرة الصفراء لمربي الثروة الحيوانية ولجميع القطاعات “عام- خاص- تعاوني” أرض مستودعات المؤسسة، لتصبح 5.1 ملايين ليرة)، أيّ أن مؤسسة الأعلاف ستربح من مبيعها للطن الواحد 650 ألف ليرة مقابل أرباح للفلاح بالكاد تكفي متطلبات حياته اليومية وشراء مستلزمات زراعة الموسم القادم!.
ومن الملفت قرار مجلس إدارة مؤسسة الإعلاف بإيقاف بيع مادة الذرة الصفراء المحلية المجففة طبيعياً والمستلمة من المزارعين بسعر 4200 ليرة للكيلو غرام الواحد، وتخصيص المادة لعمليات التصنيع بالمعامل حصراً، أيّ أن مربّي الدواجن لن يتمكنوا من الحصول على الذرة إلا بأسعار مرتفعة، سواء من المؤسسة أو من التجار.
وكلّ هذا يعني أن المزارعين يكدون ويكدحون موسماً كاملاً لدعم مؤسسة الأعلاف والتجار بمئات، بل آلاف الملايين، ما يجعلنا نتساءل بجدية: من يدعم من؟.
ما هكذا نشجع المزارع؟
ولو تابعنا تصريحات الجهات المسؤولة في وزارة الزراعة لتوهمنا أن شغلها الشاغل انتزاع الموافقات من اللجنة الاقتصادية، والقرارات من رئاسة الحكومة لتشجيع المزارعين على زيادة المحاصيل العلفية، هذا ما نستنتجه مثلاً من تصريح مدير عام المؤسسة العامة للأعلاف بقوله “إن المؤسسة رفعت سعر الذرة المجففة آلياً من أجل تشجيع مزارعي الذرة الصفراء على تسليم محصولهم إلى المؤسسة، والمزارعون راضون عن السعر الجديد”!.
نعم، المزارعون سيكونون أكثر من راضين لو أن المؤسّسة ستستلم محصولهم وتتولى بنفسها عمليات تجفيفه، سواء بمجففاتها أو باستئجار مجففات القطاع الخاص، لكنها فعلياً لن تستلم سوى الكميات المجففة آلياً من التجار ونسبة الرطوبة فيها لا تتجاوز 14 درجة كحدّ أقصى، فهل هكذا نشجع المزارعين وندعمهم؟.
وبما أن المؤسّسة كشفت أنها مستعدة لشراء كلّ كميات الذرة الصفراء شرط أن تكون مجففة آلياً باعتبارها قابلة للتخزين، سواء من المزارعين مباشرة أم أصحاب المجففات (أيّ التجار)، فهذا اعتراف علني بأن وزارة الزراعة مقصّرة جداً بتأمين المجففات على حسابها كي تتمكن من شراء كامل مواسم الذرة وتخزينها، وبالتالي تكون بهذه الطريقة قدمت دعماً فعلياً للمزارعين، ومنعت من بيعها في السوق السوداء لأصحاب المداجن، ووفرت المادة لمعامل الزيوت بأسعار تحول دون ارتفاع أسعار السلع الغذائية الأساسية التي تدخل الذرة الصفراء في مكونات كلفتها، فهل هذا الأمر صعب ومكلف بالنسبة لوزارة تعلن على مدار الساعة أنها تدعم المزارعين، وتشجعهم على إنتاج المواد البديلة للمستوردة؟.
ليس حلاً جذرياً!
ولم نستغرب الترحيب والاحتفاء باستقبال المجفف الذي أمّنته الغرفة التجارية السورية الإيرانية المشتركة في الثالث عشر من تشرين الثاني الماضي، ولكن على الرغم من أهميته لموسم ذرة يفتقر إلى المجففات منذ العام الماضي فإنه ليس حلاً جذرياً سوى للمنطقة التي سيعمل فيها وتحديداً حلب.
واستغربنا ترحيب مدير مؤسسة الأعلاف بالمجفف الإيراني بدلاً من أن يطلب من وزارة الزراعة منذ العام الماضي، وتحديداً مع بداية زراعة موسم الذرة الصفراء لعام 2023 تأمين مجففات كافية لمؤسسته من إيران، كما فعلت الغرفة التجارية السورية الإيرانية ذلك بمبادرة ذاتية.
وبما أن المجفف الإيراني الذي بدأ العمل في السابع والعشرين من الشهر الماضي تبلغ طاقته الإنتاجية ألف طن يومياً، فهذا يعني أن تأمين 5 مجففات فقط توزع على مناطق إنتاج الذرة ستتيح تجفيف 150 ألف طن في الشهر، بدلاً من المجففات البدائية الموجودة حالياً في الرقة ودير الزور ذات الإنتاجية الضعيفة!.
وكات يُفترض بوزير الزراعة الاتصال المباشر مع الجانب الإيراني أو غيرها من الدول الصديقة لتأمين ما يلزم مواسم الذرة الصفراء من مجففات مادام المزارعون أقبلوا على زراعتها بكميات تكفي سورية للمرة الأولى في عام 2022، وهي عملية رابحة جداً لأنها ستوقف عمليات استيراد المادة بالقطع الأجنبي، ترى لماذا لم يفعلها وزير الزراعة على مدى عام كامل؟.
ربما، الكلمة الفصل في هذا الموضوع هي للمستوردين المتنفذين، فتأمين مجففات للذرة الصفراء بما يشجع المزارعين على إنتاج ما يفيض عن حاجة سورية من هذه المادة العلفية والغذائية، يعني خسائر كبيرة للمستوردين، وقطعاً سيسعون بكل إمكاناتهم ونفوذهم لمنع سورية من الاكتفاء من أيّ مادة بالاعتماد على سواعد الفلاحين.
أين دور التنظيم الفلاحي؟
وفي هذا السياق نسأل: أين دور التنظيم الفلاحي؟..
منذ أكثر من عشرين عاماً ونحن نطالب اتحاد الفلاحين بالانتقال من المطالبات إلى الأفعال، فإذا كانت الحكومات المتعاقبة منذ عام 2003 تخلّت عن الدعم الكلي للعاملين في قطاع الزراعة فمن الضروري أن يتدخل التنظيم الفلاحي لدعم المزارعين بدلاً من الاكتفاء بمطالبة الحكومات بقرارات لم ولن تصدرها، أو بالشكوى بأن اللجنة الاقتصادية توافق على قرارات تخصّ القطاع الزراعي دون استشارتها أو أخذ رأيها، ودائماً تقريباً بغيابها.
نعم، ماذا يمنع التنظيم الفلاحي من تشكيل جمعية خاصة بالذرة الصفراء تتولى شراء المجففات الآلية بدلاً من التجار، وتسترد ثمنها من الفلاحين أنفسهم لقاء أجرة رمزية مقابل تجفيف محصولهم؟.
إن الشكوى من تعرّض المزارعين للظلم والغبن، ومن عدم تجاوب الجهات الحكومية مع مطالب التنظيم الفلاحين، أصبح بلا جدوى أمام التردي المعيشي لملايين الأسر السورية، وبات الأجدى استثمار التنظيم موارده بمشاريع لخدمة المزارعين وتحسين أحوالهم المعيشية بالاعتماد على الإمكانيات الذاتية المتاحة كي تنمو وتكبر عاماً بعد عام.
علي عبود