ثقافةصحيفة البعث

“ألوان وظلال” محمد الشّيخ.. نعم للمقاومة لا للعبثية العالمية

حلب- غالية خوجة

يظلّ المسرح بقعة ضوء اجتماعية وفنية وأدبية مسلّطة ليس على الأحلام والأوهام فقط، بل على الوعي الإيجابي المستنير بالقيم الثابتة والمناسبة لكل زمن، وهذا ما عكسته “ثرثرة” وليد إخلاصي المتمركزة حول “الميكروفونات” و”الكهرباء” والبطل المونودرامي الذي يوصل أفكاره بصوت عالٍ لا يلبث أن تضيق دائرته مع كل انقطاع للكهرباء، لتظل الأصوات المتنوعة متداخلة بين حالة الطقس والرياضة والأحاديث الثقافية والفنية والمجتمعية الأخرى.

وضمن اليوم العربي للمسرح، احتفت وزارة الثقافة ومديرية المسارح والموسيقا بهذه المناسبة في المحافظات السورية، ومنها حلب التي عرضت على مسرح نقابة الفنانين مدة خمسة أيام، مسرحية “ألوان وظلال” للمخرج الدكتور محمد الشيخ، المأخوذة بين اقتباس وإعداد وتأليف تصويري من المسرحية القصيرة “ثرثرة” للكاتب والمسرحي وليد إخلاصي.

لكن، هل يكفي عرض مسرحي واحد بهذه المناسبة؟ ماذا لو أن نص ثرثرة قدّمه خمسة مخرجين من مختلف الأجيال على مدار الأيام الخمسة؟ وماذا لو حضر إخلاصي هذه المسرحية؟.

لو حضر إخلاصي لقال: لم أكتبه

أجابتنا رنا ملكي رئيسة دائرة مسرح حلب القومي: “وليد إخلاصي كاتب سوري وعربي، ونحن نحتفل بيوم المسرح العربي، ويستحق إخلاصي مهرجاناً كاملاً، وربما خمس رؤى إخراجية لنصه اقتراح جميل للمهرجان، وسنعمل به لاحقاً، ولاسيما أننا أقمنا في الفترة السابقة الملتقى الحواري لتتقارب أفكار الأجيال في العمل من أجل المسرح”.

وتابعت ملكي: “بالنسبة إلى عرض “ألوان وظلال”، أرى أنها تؤكد الفرق الكبير بين النص المكتوب والنص الذي نشاهده على المنصة، لأن أي نص مكتوب، عندما يتحوّل إلى عرض، ينقل المخرج من خلاله فكرته وفكرة المؤلف، ويجسّد الكلمة كلوحة، ويتخيل، ويضيف الوصف، ولو حضر إخلاصي العرض ربما يقول: “أنا لم أكتب نص هذه الألوان والظلال”.

تفكيك العبثية من دون تركيب

أمّا كيف تناولت “ألوان وظلال” نصها الأول المنطلقة منه؟ ولماذا كلّ هذا الازدحام الضجيجي للسينوغرافيا من أضواء وأصوات متداخلة وأغانٍ اختلط حابلها بنابلها من دون الاقتراب من الموسيقا الحلبية؟ ولماذا أوحت لنا الخاتمة بأن قدرنا يشبه سيمفونية القدر لبيتهوفن التي ظهرت في المشهد الأخير؟ ولماذا تمّ الابتعاد عن المونودراما والدخول في الاستعراض، والعودة إلى المونودراما بين مبكٍ محزن ومضحك وفكاهي؟ ولماذا بُعثرت العبثية من دون إعادة تركيبها من خلال توظيفها المناسب مع شبكة العوامل والعلائق الأخرى؟ فهذا ما أجابنا عنه العرض الذي جعل من المنصة ساحة للهذيان والعبث والحمى كما قال البطل، وهذا ما أكدته الميكروفونات “مكبرات الصوت” الضوئية الملونة المستقرة على جانبي المنصة كشجرتين واقفتين، وأمام كلّ منهما جهاز راديو قديم من جدات تلك الأجهزة، وهو المشهد نفسه المعروض كمجسم مفاهيمي صغير في مدخل نقابة الفنانين، ليدلّ على الحرب الإعلامية والنفسية وتأثيرها على الإنسان غير الواعي حتى من خلال النشرة الجوية الكاذبة عن طقس دافئ وجعلته بارداً، ما جعلت الشخص العابر يلبس معطفاً ولا يقتنع بما يقوله له البطل عن طقس دافئ يعيشانه معاً، وهذه هي الفكرة الأساسية للنصين “ثرثرة”، و”ألوان وظلال”، إنها تتساءل عن ضرورة العقل وحضوره واسمه وتفعيله ودوره وإنارته، كما تتساءل عن دور الإعلام الذي عليه أن يكون أقوى أمام هيمنة الإعلام المزيف والمسيّس والمعادي والتخريبي والتدميري، لكن من استطاع أن يحسم هذا الموقف هو الحق وتضحيات الشهداء وصمود الصابرين ومقاومة الشعب المتشبّث بأرضه ووطنه، على الرغم من كل أساليب التلويث والتدمير والاحتلال.

العالم مسرح مجنون

يؤكد مخرج العمل الدكتور محمد الشيخ: “لولا العسكرتارية الأمريكية وأبواقها الإعلامية الصهيونية ومن يجاريها والتي رمزتها باللون الأزرق، لما ضاعت حقوق شعوب العالم، ومسرحية “ألوان وظلال” تنتمي إلى مسرح العبث والجنون، لأننا عندما ندخل إلى المنصة، نستنسخ العالم الخارجي الأقرب إلى المصحة، وهذا بسبب الضغط الأمريكي المسلّط على الإنسان ليتجه إلى غرائزه فقط، والذي يهدف من جملة ما يهدف إلى أن يتخلى العقل عن ذاته، والأخوة عن أخوتهم”، مضيفاً: “فنياً، وظفت التغريب، وحولت المونودراما إلى “دويتو دراما”، لأجسّد الصراع بين الشابين، وأشير إلى التناحر كوطن عربي، ما يتيح للآخر التدخل، وطبعاً لمصلحته، لا لمصلحتنا، وعملت على التأليف المشهدي الصوري، لأقدم لوحات متلاحقة، تبدو صاخبة غالباً، ووظفت خيال الظل كـ”فلاش باك” للصورة، وسعيت إلى التأليف البصري كمحور يدعمه التأليف الكلامي واللفظي”.

ويبيّن الشّيخ: “أما بالنسبة إلى سؤالك عن حضور اللهجة العامية إلى جانب العربية الفصحى، فهي محاولة واقعية من أجل التوصيل لمختلف العقول، أمّا لو أخرجت مسرحية “ثرثرة” من قِبل مخرجين عدة، فهذا يعني أن نصبح أمام تدوير الزوايا.. في النهاية كل مخرج يقدم ما يراه مناسباً لعرضه”.

وحول رأي وليد إخلاصي الافتراضي، أجاب الشيخ: “اشتغلت ثلاثة أعمال له في حياته هي: “كيف تصعد دون أن تقع”، و”حدث في يوم المسرح”، و”من يقتل الأرملة”، وحضرها، وكان رأيه أنني تفوقت على نصوصه التجريدية المكتوبة”.

أمّا عن رأيه بالمسرح العربي المعاصر في يومه، فأجاب الشيخ: “المسرح العربي بشكل عام، والسوري بشكل خاص، يعيش إرهاصات كثيرة، أهمها عدم تحمّل المسؤولية المالية من قبل الجهات المعنية، والمسرح ـ كما هو معروف ـ بحاجة إلى احتياجات مادية، كما أنه يعاني أزمة جمهور ومتلقين، وأزمة تسويق العمل، وإيصاله، وكمسرحيين، ربما، نخوض حرباً خاسرة، طالما أن المسرح اللاثقافي يستقطب الكثير من الجمهور، ربما، لأن المواطن العربي يحب أن يأتي إلى المسرح غير المثقف ليرتاح من الضغوط، وهذا يعني أننا نحتاج إلى تثقيف المتلقي ليكون هناك مزيد من الوعي الجمعي والاجتماعي والفني، إلى جانب توظيف كل وسائل وفنيات وإعلانات عملية التوصيل.

ضحية العولمة

ويحدثنا الفنان المسرحي إبراهيم المهندس عن الازدحام العبثي المتشاكل، ويقول: “أولاً، أتحدث كمُشاهد عن عرض مقتبس ازدحمت فيه المؤثرات الصوتية والموسيقا والعناصر الهجينة والدخول المزدحم بالتغريب، ما أفقد الممثل خطه الدرامي، فجعله لا يستطيع أن يتنفس في الحوار ولا أن يأخذ راحة، وثانياً، جاء الإيقاع المرتفع على حساب الشخصية، بالإضافة إلى ازدحام المَشاهد، ما يدفعنا إلى تصنيف هذه المسرحية ضمن مسرح العبث، وهو ما يحدث الآن في العالم، خصوصاً، طريقة الإعلام العالمي القمعي، وطريقة تحويل الأشخاص إلى ضحية للعولمة، ومنهم شخصية العابر.

وبسؤاله: هل كان على البطل أن يمسك القماشة الحمراء في مشهد لعبة الثيران وموسيقاها ليروّض هذا العابر الجاهل الجاثي؟ يجيب المهندس: “هو لم يعترف بأن النشرة الجوية مجرد كذبة، بل ظل متمسكاً بهذه الكذبة، ولم يقتنع بأي وسيلة كلامية أو طقس واقعي يلمسه، فأتت عملية الإقناع من خلال مصارعة الثيران لتوعيته. أحياناً، الإقناع بالقمع قد يكون أحد الوسائل، وربما، لا يكفي الفكر، من وجهة نظر المخرج، لذلك، الفكر يحتاج إلى القوة ومنها السلاح، خصوصاً، من أجل الوطن، ولذلك، لا بدّ من المقاومة.

المقاومة تنتصر على الهيمنة الزائفة

أجمعت آراء بعض الحضور الذين سألتهم “البعث” بعد حضورهم للمسرحية في يومها الثالث على جمالية العرض بشكل عام، لأنه يسلّط الضوء على هيمنة الإعلام الغربي على العالم، لكن، في النهاية، لا بدّ أن تفرض المقاومة والحق أصواتها.