صبري مدلّل آخر شيوخ الطرب
فيصل خرتش
أخذت مدينة حلب الموشح وطوّرته، وهذا الموشح كان له شيوخه، ومن أشهرهم الشيخ عمر البطش الذي تتلمذ على يديه كثيرون، وكان أشهرهم صبري مدلّل المولود في عام 1918، في واحد من أهمّ أحياء حلب، وهو حيّ المشارقة العريق، وعندما بلغ الطفل السنّ التي تسمح له بالذهاب إلى الكتّاب، أخذه والده إلى أحد المشايخ ليحفظه القرآن، ويعلمه كتابة الخط والدوبيا ومسك الحسابات، وفي إحدى المرات اكتشف الشيخ جمال صوته وهو يرتّل القرآن الكريم، فكرّمه، وذلك بأن يدعو المصلين إلى صلاة الظهر من فوق مئذنة المسجد القصيرة.
ارتقى الولد على مئذنة المسجد وصار ينادي “الله أكبر”، وراح يترنم بمفردات الأذان، وقد اجتمع الناس أسفل المئذنة، وراحوا ينصتون إلى صوته الرخيم الذي يأتيهم من السماء، وهكذا كان يفعل كلّ يوم، فقرّر الشيخ أن يعلّم الولد الصغير أصول الغناء والقدود والموشحات، وهو أمر لم يكن سهلاً في تلك الأيام.
وكان الشيخ عمر البطش قد بلغ شأواً كبيراً في غناء الموشحات، بين معاصريه من أصحاب الطرب والغناء، ووصل إليه خبر غناء الصبي، فقرّر أن يسمعه، وعندما سمعه ضمّه إلى جوقة المغنين والمنشدين، وأصبح صبري مدلّل طالباً نظامياً في مدرسة الشيخ عمر البطش، فدرّبه الأخير، وعلّمه أصول الغناء والتقاسيم، بعد أن سمعه يغني موشح “كحل السحر عيوننا”، فسرّ به كثيراً، وقرّر أن يعلّمه علوم الأوزان والمقامات والضروب على أصولها، وبعد سنة من تعليمه قال له الشيخ عمر البطش: “أنا لن آخذ منك وظيفة” وهي أجرة الدرس، لك مستقبل يا ولدي، سوف آخذك معي، لتتعلّم الكار جيداً”، وهكذا صار يأخذه معه إلى حفلات الطرب والغناء، صبري يغني، والأستاذ الشيخ وراءه على الرقّ.
ثم صار التلميذ يمسك الحفلات، ويأخذ عليها خمس ليرات وظيفة، ويعطي البطش ليرتين، ويأخذ البقية، وأصبحت شهرة المغني الجديد تملأ حلب، إلى أن تمّ افتتاح الإذاعة، وبدأت بوادر الحرب الثانية تلوح في الأفق، وعندها أخذ الشيخ عمر البطش تلميذه النجيب إلى مدير الإذاعة في حلب، وأسمعه موشحاً فسرّ المدير، وطلب إليه أن يداوم مباشرة، كذلك توظف عمر البطش وكثير من الفنانين الحلبيين، يقدمون وصلة كلّ أسبوع، وقد عمل جميع الفنانين في تلك الفترة بروح فنية عالية، كان كلّ واحد ينتظر وصلته الغنائية في الإذاعة الحلبية بروح متوثبة، وتحفز مشوب بالقلق، خوفاً من الفشل، وكان الخطأ يعني نهاية الفنان ونهاية الفرقة الموسيقية التي يعمل فيها، وقد عمل الشيخ عمر البطش وفرقته في حلب على إحياء التراث، بما فيه من موشحات وقدود ونوبات، وكان مغني الفرقة، دائماً الشاب صبري مدلّل، وقد احتج مرّة لمدير الإذاعة، فهو لا يأخذ سوى راتبه من الإذاعة، بينما غيره يأخذ أربعين ليرة على كلّ حفلة، فقال له المدير: “الموضوع يحتاج إلى قرار من المدير العام في دمشق”، فحمل نفسه إلى دمشق، وفحصته لجنة تتكوّن من الفنانين: رفيق شكري، ويوسف بتروني، وعمر النقشبندي وغيرهم، فأسمعهم صبري على أنغام الرصد، ثم باشر بالليالي، وأطربهم بموشح العذارى المائسات، وكان يغيّر النغمات ويطلع وينزل، فأعجبوا بأدائه، وسلّمه المدير كتاباً رسمياً يباشر فيه الحفلات في الإذاعة، وغيرها، وراح اسمه يظهر في إعلانات المجلات، وقد حضر والده الورع مرّة إلى مبنى الإذاعة ورأى ولده بين الفنانات، فأخبره بأنه غير راض عن هذه المهنة التي تجلب العار له ولولده، ومن يومها ترك صبري الإذاعة، ملبياً رغبة الوالد لينصرف إلى تأسيس الفرق الدينية التي راحت تعمل في البلد مدائح نوبية لا غير، من أجل رضى الوالد، وأصبحت الفرقة من أحسن الفرق في حلب.
يقول الأستاذ محمّد قدري دلال عن صوته: “حين تصغي إلى غنائه، تحسبه تغريداً، إذ أنّ فيه من الإحساس باللحن ما يجعلك تحلّق على الرغم من أنه أوتي صوتاً كامل الرجولة، واجتمعت القوة والمساحة والحسّ في صوت واحد يعدُ من النوادر”، يضاف إلى كلّ ذلك جمال الصوت في كلّ مستوياته، لكن الجمالية لا تكتمل إلا إذا رافق نقاء الصوت وعلو الحسّ فصاحة اللسان وصحة الإعراب، ووضوح اللفظ وسلامة مخارج الحروف، لكي تصل الكلمة إلى مسامعها، فتحتلّ مكانها في الوعي، وتترك أثرها في القلب والعقل والروح.
ونورد هنا قصيدة يتكرّر غناؤها في حفلاته:
يا قلبُ أنت وعدتني في حُبِّهم صبراً فحاذر أن تضيق وتضجرا
إنّ الغرام هو الحياة فُمتْ به صباً فحقُّكَ أن تموت وتُعـــــــذرا
ثم سمعه “كريستان بوخه” أحد الفرنسيين في مسجد الكلتاوية في حلب، وطلب إليه أن يذهب إلى فرنسا معه هو وفرقته، فذهب وأحيا حفلتين هناك، وقد سرّ الفرنسيون من أدائه النشيد “أحمد يا حبيبي”، وسجلت على أسطوانة، وطبعت باسمه، ثمّ صارت تأتيه الدعوات من كلّ مكان في العالم، إلى أن توفي الشيخ الفنّان في عام 2006.