عملية “ميرون”.. الرسائل والدلالات
د.معن منيف سليمان
أعلنت المقاومة الإسلامية في لبنان أن مقاتليها استهدفوا قاعدة “ميرون” الصهيونية على جبل الجرمق شمالي فلسطين المحتلة، وتُعدّ قاعدة “ميرون” مركزاً للإدارة والمراقبة والتحكّم الجوّي الوحيد في شمالي الكيان الغاصب، وهي واحدة من قاعدتين أساسيتين في كامل الكيان. وقد ترتّب على هذه العملية المباركة نتائج عظيمة حملت في طياتها رسائل ودلالاتٍ ردعت العدو واضطرّت قادته إلى إعادة حساباتهم وتغيير أولوياتهم في توزيع وانتشار جيشهم المهزوم تحسبّاً لمعارك الشمال.
تقع قاعدة “ميرون” على بعد ثماني كيلومترات عن آخر نقطة حدودية مع لبنان، في مقابل بلدات رميش ويارون ومارون الراس اللبنانية في القطاع الأوسط، وتتربّع على قمّة جبل الجرمق في شمالي فلسطين المحتلة، وهي أعلى قمّة جبل ضمن الأراضي المحتلّة لعام 1948.
وتُعدّ قاعدة “ميرون” مركزاً للإدارة والمراقبة والتحكّم الجوّي الوحيد في شمالي فلسطين، ولا بديل رئيساً عنها، إذ تمثّل واحدة من قاعدتين أساسيتين في كامل الكيان الغاصب؛ وهما “ميرون” شمالاً، والأخرى “متسبيه رامون” جنوباً.
وتعنى القاعدة بتنظيم وتنسيق وإدارة كامل العمليات الجوية باتجاه سورية ولبنان وتركيا وقبرص، والقسم الشمالي من الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، كما تشكّل مركزاً رئيساً لعمليات التشويش الإلكتروني على الاتجاهات المذكورة، ويعمل فيها عدد كبير من نخبة الضباط والجنود الإسرائيليين.
وتؤمّن الكاميرات الضخمة وأجهزة الرؤية الحديثة إشرافاً ذا أهمية استراتيجية على جزء كبير من الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة، وعلى المواقع الإسرائيلية وما يقابلها في لبنان، وهي بالتالي تعدّ رافداً أساساً لقدرات الجمع الاستخباري التي كانت موجودة في المواقع الإسرائيلية الحدودية التي استهدفتها المقاومة خلال الأسابيع الفائتة ودمّرتها.
وبالإضافة إلى كونها مقرّاً استراتيجياً للعمليات الجوية ورادارات الرّصد في الجبهة الشمالية للاحتلال، اكتسبت في السنوات الأخيرة قيمة إضافية مضاعفة مع دخول المسيّرات الحربية إلى الخدمة بشكل أكبر بكثير مما كان عليه الوضع منذ عدّة سنوات.
وفي إطار الرّد الأوّلي على جريمة اغتيال القائد الكبير الشيخ صالح العاروري وإخوانه الشهداء في الضاحية الجنوبية لبيروت، حدّدت المقاومة لجبهة لبنان هدفاً معلناً واضحاً، يحقّق الغاية ويجنّب الانزلاق في حرب مفتوحة، وبهذا المنطق اختارت المقاومة قاعدة “ميرون” للمراقبة الجوية فاستهدفتها بـ62 صاروخاً من مختلف الأنواع والمفاعيل وحقّقت فيها إصابات دقيقة.
ولقد حافظت المقاومة على تدرّج دقيق في انتقاء طبيعة الأهداف التي تضربها طوال المرحلة الماضية، ضمن إدارتها المحكمة لسلّم التصعيد مع الإسرائيلي حيث تمكّنت خلال ثلاثة أشهر من ضبطه على إيقاعها، وإجبار الإسرائيلي على الخضوع لمعادلاتها، سواء لجهة منطقة العمليات العسكرية، وطبيعة القصف داخل لبنان، وردع الاحتلال عن استهداف المدنيين في لبنان ضمن معادلة الرّد بالمثل، وتحييد جزء كبير من الجغرافيا اللبنانية عن دائرة استهداف الاحتلال.
ولكنّ التمادي الإسرائيلي في تنفيذ عملية قصف صاروخي استهدف الضاحية الجنوبية، وأدّى إلى اغتيال قيادات في المقاومة الفلسطينية، جعل المقاومة تحسم خيار التصعيد ضدّ الاحتلال، وجاء قصف القاعدة تحت عنوان “ردّ أوّلي” على اغتيال الشهيد العاروري في الضاحية، ليبقى الحساب مع الإسرائيلي مفتوحاً على احتمالات المواجهة في حال قرّر بدوره الردّ على هذا التصعيد.
وكانت قيادة العدو متمثلّة برئيس وزرائها “بنيامين نتنياهو” تبحث عن حلّ لمعضلة الخروج من أزمتها الداخلية وإخفاقها في الحرب لتوسيع دائرة الصراع، وتوريط حلفائها وخصومها وأعدائها في آن معاً بحرب تبدو وكأنها فرضت عليها، وقد تكون الحلّ الوحيد لمشكلة أمن شمالي فلسطين، وفي سبيل تحقيق هذا الهدف لجأ العدو إلى سلسلة من الاغتيالات لقادة مهمّين في محور المقاومة فاغتالت العميد رضي الموسوي من الحرس الثوري الإيراني في دمشق والشيخ صالح العاروري من حماس في الضاحية الجنوبية من بيروت.
يشكّل ضرب القاعدة الأهم في الشمال، بصواريخ موجّهة، تأكيداً من حزب الله أنه أدخل إلى الحرب صواريخ نوعية دقيقة لا تملك “إسرائيل” نظاماً لاعتراضها، ما يعني أنّ هذه القاعدة أصبحت بمنزلة الساقطة بالنار أمام المقاومة وصواريخها الموجّهة، ويعني أنّ الإسرائيلي وجد نفسه أمام مأزق حقيقي يحيق به من جبهة الشمال، حيث تم إخضاع ضباط وجنود الاحتلال للمرّة الأولى لاختبار هجوم مباشر من المقاومة بعد أن كانوا يظنون أنّ مقرّهم الرئيس بعيد عن متناول قدراتها إلى حدّ كبير، وأنّ حربهم ضدّها هي عن بُعد بوساطة الطيران والمسيّرات.
وتعدّ عمليّة “ميرون” عملية نوعيّة واستراتيجيّة هزّت الكيان الصهيوني، لأنها استهدفت قاعدة حسّاسة واستراتيجيّة، حتى إنّ وسائل إعلام العدو والمحلّلين العسكريّين والاستراتيجيّين داخل الكيان، أجمعوا على أنّ هذه القاعدة تُعدّ من أهم قواعد جيش العدو الحسّاسة والاستراتيجيّة، وأنّ حزب الله تمكّن من المس بعيون “إسرائيل”، لأنّ هذه القاعدة “هي عين الدولة” على حدّ تعبير بعض الصحف الإسرائيليّة.
لقد أسقط في يد العدو وأحرجت العملية قادته حيث وضعت المقاومة الكرة في ملعب قيادة الجيش والحكومة الصهيونية التي صار عليها أن تختار بين أن تسكت عن هذه الضربة المذلّة والخطيرة جدّاً بالنسبة لأمن قادة الاحتلال العسكريين وسير عملياته ضدّ لبنان، أو أن تذهب نحو ردّ تجهل عواقبه وتبعاته.
ولا شك أن العملية ستؤثّر في المعادلات العسكرية للكيان الصهيوني، وهناك رعب حقيقي لدى قيادة الكيان العسكرية من نتائج عملية حزب الله قد تكون اضطرتها إلى تغيير في أولوياتها وفي توزيع وانتشار جيشها تحسباً لمعارك الشمال. وربما تخشى أن يكون حزب الله قد قام بذلك استعداداً لما هو أكثر، وخاصة أن بيان المقاومة قد تضمن عبارة “في إطار الرّد الأولي”. ولهذا فإن هذا التهديد والرعب للكيان الصهيوني سيجعل الأمريكي يزجّ بكل إمكانياته لتغيير قواعد الطروح السياسية وسبلها وقنواتها بعد اللقاءات والاجتماعات غير المجدية في عواصم دول التطبيع.
وبهذا السياق أثبتت المقاومة الإسلامية في لبنان أنها ليست مردوعة، بل كانت على الدوام قويّة وحاضرة في الميدان، ولم تكن لها أية حسابات في الدفاع عن لبنان، بدليل أنها على الرغم من كل التهديدات الإسرائيلية والأمريكية خرجت لمساندة غزّة والدفاع عن لبنان، وهي تقدّم اليوم قوافل شهداء على طريق القدس، وتواصل عملياتها، ولا تبالي لكل التهديدات أو الوساطات والرسائل التي تريد مساعدة العدو في تحقيق أهدافه وفرض معادلات جديدة.
وفي هذا الصدد قال الكاتب في “يديعوت أحرونوت” “نداف ايال”: من اكتشف اليوم أن حزب الله غير مردوع، أحسده على هذا التفكير خلال الشهرين الماضيين، من يبدأ معركة في الثامن من تشرين الأول ليس مردوعاً، وما حصل اليوم هو استكمال لهذا النهج”.
وهكذا يؤكّد قادة المقاومة في لبنان أنّ المقاومة ماضية في عمليّاتها في الجنوب، وهي تستنزف العدو وتربكه وتُحقّق إنجازاتٍ نوعيّة تحدّث عنها سماحة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في خطابه الأخير، ولن يكون آخرها الإنجاز النوعي في قصف قاعدة المراقبة الجوية في “ميرون”.
إن المقاومة في لبنان لن تسمح للعدو الصهيوني أن يتجاوز الخطوط الحمراء، وكسر قواعد الاشتباك، أوفرض معادلات جديدة، فهي لن تسكت عن ذلك وسوف تعمل بكل قوتها على تثبيت معادلات الردع، لمنع العدو من التمادي في عدوانه. وكل ما يشاع عن دقّ طبول الحرب ما هو إلا حرب نفسية للحصول على تنازلات لن يحصلوا عليها من المقاومة.