قراءة في رواية مرايا النار للأديب الراحل حيدر حيدر
ربما لم تلقَ أعمال حيدر حيدر الأدبية على غزارتها وتنوّعها – بين جنسين أدبيين هما القصة القصيرة والرواية- الاهتمام الكافي باستثناء روايته- ذائعة الصّيت، واضحة الإشكالية- وليمة لأعشاب البحر.
في مقالي هذا سأتوقف عند رواية حيدر حيدر مرايا النار وهي الرواية الصادرة عن دار أمواج في بيروت عام ١٩٩٢م.
تُظهر هذه الرواية طواعية عالية في إذابة معارف وفنون أخرى ضمن صفحاتها وأقصد بذلك الفلسفة على وجه التحديد، إذ من المثبت أنه لا يستطيع أحد أن ينفي علاقة الرواية بالفلسفة أو النفس أو المجتمع أو الدين..
حيدر في مرايا النار ينسج حكايته بطريقة تختلف عن السرد التقليدي وتقذف في وجه قارئه مواضيع عميقة واستفهامات مصيرية في ميادين السياسة والمجتمع والدين تكاد تحسبها مثيرة لجدل أزليّ.
ومن هنا ربما يحقّ لنا أن نستعير عبارة أرسطو الشعر أسمى من التاريخ لنقول والرواية أيضاً أسمى من التاريخ أو هي تاريخ الذين لا تاريخ لهم وفق مقولة الروائي عبد الرحمن منيف وهذا ما تعكسه بأمانة وحرص شديدين رواية حيدر حيدر.
قسّم حيدر روايته من حيث البناء إلى خمسة أزمنة: زمن الحكاية وزمن الورد وزمن العار وزمن الهروب وزمن الغيرة. وجعلها تتحرك وفق مسارين مجدولين بوشائج لا انفصام فيها :
المسار الأول يدور في مشاهدات ناجي العبدالله – وهو بطل الرواية- وهو على متن قطارٍ متجه إلى إحدى المدن الإفريقية. أما المسار الثاني فهو ما ينضوي تحت تقنية الاسترجاع أو التذكّر، وفيه يحكي ناجي العبدالله ذكرياته ومارسخ في قيعان روحه من خوف وألم وانهيارات ترافقت مع هروبه من لبنان أثناء الحرب الأهلية متوجهاً إلى المغرب العربي.
تظهر في الرواية أربعة أصوات سردية: صوت ناجي العبدالله ويذكّر اسم البطل هنا باسم البطل في رواية الزمن الموحش وهو شبلي العبدالله وكأن في هذا الاسم (عبد الله) يدحض حيدر عن نفسه تهمة الشك واللايقينية التي تَسم أبطاله المأزومين في أكثر من عمل روائي وقصصي.
صوت الرواي العليم أو الخارجي الذي يطل على خجل وكأنه جاء ليُخرج حيدر في كلّ مرة من مأزق الإيغال في تداعيات تيار الوعي الذي اتخذه نهجاً لشخصياته. صوت دميانة المرأة الحاضرة النابضة في الحكاية وفي الذكرى على حدّ سواء. وصوت عبد الرحمن زوج دميانة، الصوت العاجز المقهور الذي يرفع راية الرفض والمكاشفة ورد الاعتبار في الزمن الأخير من الرواية. ( زمن الغيرة).
الزمن في مرايا النار زئبقي لا يمكن القبض عليه فهو يتراقص بين الشخصيات فيظهر تارة ضبابياً ساحراً عندما يتحدث عن دميانة
(( أهي امرأة الأزمنة التي اصطفتها الخطيئة لتكون وليمة الشهوة وتوبتها في ذلك الخريف الأخير؟ أم هي محض طيف كاذب عبر في مخيلة رجل مريض ذات ليلة)) ويظهر تارة أخرى ناصعاً في مشاهد واقعية. (( هذا الرجل أمامي يبدو لي من خلال صمته الكتيم لغزاً لا يدعو للثقة ومع ذلك فإن حركاته وشروده يثيران فضولي قبل أن يأتي به أحد الأصدقاء ليستأجر غرفة في بيتنا المشرف على البحر)).
وبذلك يجعلنا حيدر في مهب لقاء دائم بين الماضي والحاضر ووجهاً لوجه مع نقاشات مفتوحة حول الخوف والظلم وأمراض المجتمعات العربية وفسادها وتآكلها في صدامات بينيّة أو حتى ضمن الأهل في البلد الواحد، وهذا ما جعل البطل ناجي العبدالله هارباً من لبنان إلى المغرب ثم على متن القطار طوال سرد الرواية
وكأن السفر قدره وكأن المجهول مصيره، حتى عندما يصوّر رحلته على متن القطار يرصد طفلاً يموت بين أحضان أمه في إسقاطة موغلة اليأس وإشارة إلى الموت الذي يترصده ويتربّص به في كل تنقلاته ومحطاته.
تصبح الحقيقة ضمن هذه المعتركات نافلة باعتراف حيدر حيدر نفسه إذ يقول: (( إذ كان لا بد من قول الحقيقة وهي في الحكايات غير ضرورية فإن القسم الأكبر من هذه السيرة المتحركة التي تلت ولوج البحر لا تغدو كونها تركيباً شهوانياً ينزع إلى السير فوق صراط الجنة والجحيم عبر مطهر الموت)) حيث تقوده هذه النزعات إلى إقامة علاقة مشبوهة مع دميانة في المغرب، تنتهي بتدمير أسرة بأكملها.. وتُظهر تواترات السرد حقيقة واحدة فقط هي تداعيات أزمنة الحروب و الموت والشتات وسطوة أزمنة الرغبات.
لذلك يجد القارئ في نهاية هذه الرواية نفسه أمام سؤال مشروع جداً؛ ماذا يريد أن يقول حيدر حيدر عبر هذا الخواء الذي يمتد على مساحة مئة وست وعشرين صفحة يبدو الزوغان عنواناً لها والمجازات الملتبسة سمة لمعظمها.
هنا من الأمانة القول: إن حيدر في مراياه النارية خاطب العقل والنفس معاً وطرح عشرات الأسئلة الوجودية (( لماذا فُتحت المدينة للقتلة؟….)) ولا يذكر هنا مدينة بعينها وكأن كل المدن العربية معرّضة لهذه الاستباحة…
((وأنا أسأل عزلتي وعراءاتي قرب بوابات البحر أهي قوة الوحش أم ضعفي؟ موتهم أم غفوتي؟ أم هو انعطاب الروح؟ صرخت الروح المنفية : ما الذي جنيتُ حتى أُبتلى؟ إلى متى ستظلّ حاملاً جثث موتاك على كتفيك؟ لقد انتهى زمن وبدأ زمن آخر، حدّق جيداً في أعماق المرايا))
إن لم يكن في هذا العمل سوى ما ذكره حيدر حول التشظي الذي يتلف الأرواح في ظل النزاعات والهروب الذي يجعلها تجلد ذاتها ومرارتها رغم أنها مادة و وقود لحرب ليست من صنعها..
ثم ما قدّمه من صورة ثلاثية الأبعاد – إن صحّ التعبير- للمرأة في ظل الناموس العربي وقواميس تحريمه وتحليله الواسعة التي تحولها من ضحية إلى طاغية يتقن ممارسة الوحشية. فقط لتضمّد عورات جراحها كما يُسوّق لها..
وما أتى به من نموذج بديع لغريب يحاول رغم وهنه وفقده لأهله أن ينصب ميزان الحق والخير والمحبة والقيم ليكشف شراهة وبشاعة القتال بين الأخوة والحروب و الخلافات والأطماع التي جبلت عليها النفس البشرية في كون قلق..
قلتُ: إن لم يكن في هذا العمل سوى ما ذكرته سابقاً فحسب حيدر وقارئه معاً هذا الغيث كله الذي بناه بشعريّة عالية عبر أكثر من سارد، ولكن بذات مبدعة واحدة برزت عبر مساحة النص بأكمله مراوغة في أبنيتها بين الواقع والممكن فبرزت بشكل جمالي لافت.
وعليه فإن معرفة الداء وكشف الخطأ وفضح الظلم وإدراك الخيانات ومراجعة الذات ومعاقبتها ومساندة الضعيف هي ملامح لإنسانيَّة ناهضة نحو منابع الشمس والدفء، وهي خطوات أولى نحو فجر الشفاء واليقين و السير في دروب الصلاح.
ميادة الحجار- طالبة دراسات عليا- جامعة دمشق