كمال فوزي الشرابي!
بلى، ما أصعب الفقد، وما أوقد ناره، وما أقسى لذعه، وما أوجب ذكراه، حين يكون أهله أهلاً للبناء والعطاء، وقد عاشوا حياتهم من أجله، وكرمى لما فيه من غنى وإبداع.
الآن أتذكّر الراحل كمال فوزي الشرابي الشاعر، والأديب، والمترجم، والصحفي، والإنسان الذي يشبه أشجار البخّور، فقد كان، وهو حي زكي الحضور، طيب العطاء، جميل المظهر، وغني الجعبة، وافر المعرفة، بل كان مفرداً في ثقافته، وأسلوب كتابته، وتخيّر أصدقائه، وشغوفاً بالثقافات العالمية طراً، من دون محابة أو تعصّب ثقيل لثقافة بعينها، أو اكتفاء بعلم دون الآخر، أو تحييد لدرب من دروب معرفية أخرى.
في مثل هذه الأيام، رحل كمال فوزي الشرابي ( 1923- 2009) الذي لم يصب شهرة واسعة في الشعر والأدب والترجمة والصّحافة طوال السنوات الملأى بحب الثقافة التي عاشها، لقد كان من أهل الرضا بما تصنعه يداه، وبما يجول في عقله، وبما تتخيره ذائقته من آداب وفنون إنسانية، لا بل أجزم، أنه عاش في سنواته الأخيرة، من أجل الآداب والفنون فحسب، فكان يكتب الشعر، ويكتب عنه، ويترجم من لغة إلى لغة وينشر في صحف سورية ومجلاتها، وفي صحف البلدان العربية ومجلاتها أيضاً، وكان لا يُفلت موضوعاً اشتغل عليه، سواء أكان قصيدة أم مقالة، أم دراسة، أم قطعة مترجمة إلا وقد عمّها الصقل كما لو أنها مرآة، وقد قيّد نهاره وليله بساعات مشاغلة للآداب والفنون كي يقرأ بصرامة، ويكتب، أو يترجم، أو يؤلف، أو يبدع بصرامة مماثلة، لقد عرفته، وأنا في مطالع حياتي الأدبية، يوم كنت مشرفاً على الصفحات الأدبية في غير صحيفة ومجلة في البلاد السورية العزيزة، وقد رجوته أن يكتب ما يشاء، وأن يزوّد الصحيفة أو المجلة التي قيضت مسؤوليتها إليّ، فكان مجيباً ملبياً بمحبة جمّة، وضحكة وسيعة تملأ وجهه الوسيم، وكان وكلّما جاء إليّ، أعرفه من صوته المنادي عليّ قبل أن يصل، وقبل أن يدخل الباب، فيهتف قلبي باسمه، وأفرح لأنه جاء ومعه صيد ثقافي كلّه غنى، وأجالسه، وأنا أسأله عن حاله، وقد غدا وحيداً، يقول لي: حين أستيقظ، أقول لنفسي، وأنا أحلق شعر وجهي أمام المرآة: صباح الخير يا حلو، يارب يكون يومك كمالاً وفائزاً وشراباً طيّباً. فابتسم له، وأضيفُ: وأن تكون كتابتك كذلك أيضاً. قال: لي صديق صائغ ذهب وفضة، هو من علّمني الصبر على الكتابة، لأنه صبور، وصاحب همة وأناة، وحذق، وهو يشتغل على القطعة الصغيرة التي بين يديه، يدوّرها بين أصابعه حتى تصير، لولا الحياء، من لحم ودم.
هذا الصائغ، أبو سعاد، جاءني مرّة في زيارة إلى البيت ليشرب من قهوتي التي يسميها قهوة بالريحان، لأنني كنت أغلي بنّها مع وريقات الحبق، فرأى، وأنا أصنع القهوة، أوراقي التي حبّرتها وتركتها فوق الطاولة، وقد تعددت ألوان كتابة الصفحة الواحدة منها، مثلما تعددت الملاحظات، والخوف من أن تتشابه الحروف على القارئ فيحدث الارتباك في المعنى، ما بين حروف مثل الفاء والقاف أو الصاد والضاد، والياء والألف المقصورة، والميم والحاء.. إلخ. فقال لي عندما عدت إليه: أراك ترسم، ولا تكتب، فقلت له: أنت صائغ فضة وذهب، تجمع ذرات الذهب والفضة لتجعل منها حلية، وأنا أجمع الحروف والكلمات لأصوغ منها معنى لطيفاً جميلاً، وكلماتي عزيزة عليّ، ولهذا أكتبها بخط جميل، وأرفقها بملاحظات لاثنين عزيزين عليّ هما قلبي وروحي، الكتابة الجميلة صياغة تحمل المعنى على كفّها، والقبول عليها يحتاج إلى سحر خاص.
نعم، لا أذكر، وطوال سنوات عدة، أن جاءني كمال فوزي الشرابي بمقالة خطّها، إلا وهي متعددة بألوان الحبر، وكان يكتب بقلم الحبر، لم تكن يومذاك أجهزة الكومبيوتر، ولا أذكر أنني رأيت في مقالته محواً، أو حكّاً، أو طمساً لكلمة. كانت صفحته أنيقة جداً، تشبه أناقته التي عرفناه عليها، فكلّ خروج له على الناس كان يشبه الخروج إلى حفلة مسرح أو أوبرا، أو استقبال لعظيم من عظماء البلاد أو ضيوفها.
ولا أذكر أنني عرفت كاتباً عشق الأدب الفرنسي مثل كمال فوزي الشرابي، لقد درس الأدب الفرنسي بدافع العشق، بعد أن تحصل على إجازة في اللغة العربية وآدابها، وقد غوّر بعيداً في تعريف المثقفين بالآداب الفرنسية منذ القرن السادس عشر، وحتى الوصول إلى بدايات القرن الحادي والعشرين، فإن كتب عن راسين (1639- 1699) أجمل ووفّى، بحيث يقول القارئ، الآن عرفت راسين، وإن كتب عن فيرلين (1844- 1896) شعر القارئ بأنّ الشعر سحر وأغنى، وإن كتب جان جينيه (1910- 1986) أو بودلير (1867– 1896) أو رامبو ( 1854- 1891) أنّ الرجل عاش معهم، وأسهم معهم أيضاً في تقليب الأفكار، وصوغ التقنيات الجديدة التي جعلت النصوص قناديل وأعز، وأنا لم أعرف أديباً مترجماً ترك قصيده وحيّده ليكتب عن الأدباء الفرنسيين والتعريف بهم، وتظهير ما في كتاباتهم من إبداع، وما في حياتهم من أسرار وجماليات، وقد أوقف مجلته القيثارة التي أسسها سنة 1964، لتكون جهة للتعريف بأجمل ما في الآداب الفرنسية، ومن أسفٍ أن أحداً لم يتقف دربه وطريقته في الترجمة، لا في اللغة الفرنسية، ولا في غيرها من اللغات الأخرى ليقدّم لنا أجمل آدابها على الصورة المتقنة بجمالها وحضورها التي أبداها لنا كمال فوزي الشرابي.
أما شعره، وقد كان مقلاً فيه، فلم نعرف منه إلا ما جاء في بعض الدواوين التي تجاسر على طباعتها، لأنه كان يخاف من بهرة الشعر، ويهاب قطفه من أشجار الخيال، ويتهرّب من مصادفاته وإلحاحه، ويزهد به مع أنه كان يرى سطوره حاضرة بادية مكتملة مضاءة أمام عينيه، ولكن يده، وقلمه، وتمتمات شفتيه كلّها واقعة راكعة في عالم الارتجاف من وهرة الشعر ومهابته.
يا لذلك الرجل النادر كمال فوزي الشرابي، بشعره وأدبه، وترجماته، وحضوره، ورهبنته حين يقتحمه الخيال فيحيط به، ليركض قدر طاقته في عالم من سحر الأدب الذي لا يدانيه أو ينادده سحر حلال آخر.
حسن حميد
Hasanhamid55@yahoo.com