الأنغلوسكسون يضرمون النار في البحر الأحمر
هيفاء علي
شنّت الولايات المتحدة وبريطانيا عدواناً سافراً على اليمن في 11 كانون الثاني، وشاركت في هذا العدوان أستراليا والبحرين وكندا وهولندا، بينما انسحبت اسبانيا وفرنسا بعدما رفضت هيئة الأركان العامة للجيش الفرنسي المشاركة في عدوان يسمح باستمرار ارتكاب المجازر في فلسطين المحتلة، وذلك بعدما قرّر ماكرون الانضمام إلى هذا التحالف. وأشرف على العملية الجنرال مايكل إريك كوريلا، قائد القوات الأمريكية في الشرق الأوسط، وبالتالي فإن هذا العدوان هو امتداد للعدوان الجاري على قطاع غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة.
وقد ذكرت وكالة رويترز للأنباء أن الغارات الأمريكية-البريطانية أصابت أهدافاً في جميع أنحاء اليمن، بما في ذلك العاصمة صنعاء ومدينتا صعدة وذمار، بالإضافة إلى محافظة الحديدة. وكانت اللجان الشعبية قد خرجت منتصرة من حرب قاسية استمرّت تسع سنوات وتعلمت كيفية حماية نفسها، وبالتالي لن يتغلّب عليها هجوم الأنغلو-سكسون.
وفي الوقت نفسه الذي تتعرّض فيه المقاومة الفلسطينية لحرب شعواء من جيش الاحتلال، تعدّ اللجان الشعبية مصدر قوة لجهة الإشراف على مضيق باب المندب، حيث وجّه محور المقاومة أعنف الضربات للكيان الإسرائيلي، نتيجة الاستيلاء على ثلاث سفن شحن وهجوم الطائرات دون طيار على سفينة شحن أخرى، كل هذه العمليات تم تنفيذها للاستفادة من باب المندب، أحد أهم نقاط التجارة العالمية. وبهذا المعنى، يمكن القول: إن اللجان الشعبية تفهم الجغرافيا السياسية الكلاسيكية، وخاصة أن ألفريد ماهان، وهو ضابط بحري أمريكي يعدّ أبا الجغرافيا السياسية البحرية، اعتبر أنه لكي تتمكّن أي دولة من تحقيق حالة الهيمنة، يجب عليها السيطرة على الطرق البحرية والتدفقات التي تستخدمها، حيث ينظر إلى التجارة باعتبارها مركز السياسة. ويعتقد ماهان أن وظيفة القوات المسلحة هي خدمة الإسقاط الاقتصادي والتجاري للدولة في سعيها لتسلق سلّم السلطة في جميع أنحاء العالم، مع اعتبار البحار “سلعاً مشتركة”، تؤكد الطبيعة الاستراتيجية للسيطرة على نقاط الاختناق من خلال القواعد البحرية وأسطول بحري كبير في نشاط مستمر من أجل “خصخصة” البحار من خلال التحكم في طرق التجارة وخطوط الاتصالات.
وستكون “نقاط الاختناق” هذه هي المضائق والقنوات والكابلات البحرية في جميع أنحاء العالم، وهناك ثماني نقاط خانقة رئيسية هي: بنما، والسويس، وجبل طارق، وهرمز، وملقا، والبوسفور الدردنيل، والرجاء الصالح وباب المندب، وسبع نقاط ثانوية (تارتاري، بيرينغ، دوفر/باس) -دو كاليه، هورن/ماجلان، كوريا، سكاجيراك، توريس.
ويعدّ باب المندب، الخاضع قانونياً لسيطرة اليمن وجيبوتي، هو المضيق الذي يربط البحر الأحمر بالمحيط الهندي ويمثل الرابط البحري الرئيسي بين البحر الأبيض المتوسط وبالتالي أوروبا وآسيا. ولم يكتسب المضيق هذه المكانة إلا بعد افتتاح قناة السويس في القرن التاسع عشر، لذلك من المستحيل فصل السويس عن باب المندب.
وعليه، تؤثر المشكلات في أحد طرفي البحر الأحمر بشكل كبير في التدفقات في الطرف الآخر، ويمرّ عبر باب المندب خمسون مليون طن من المنتجات الزراعية وما يقرب من ملياري برميل من النفط كل عام، وهو ما يمثل حوالي 10٪ من إجمالي التجارة البحرية في النفط والمنتجات النفطية، كما تعدّ المنطقة مهمّة بالنسبة لتجارة الغاز الطبيعي المسال، إذ يمرّ عبرها 10% من التجارة العالمية من هذا المنتج.
زيادة على ذلك، فإن أهمية المضيق بالنسبة للغاز الطبيعي المسال ستميل إلى الزيادة بسبب الحرب الأوكرانية، ولكن إذا كان باب المندب مهمّاً بالنسبة للصين، فهو أكثر أهمية بالنسبة للكيان الإسرائيلي المحتل حيث إن 98% من التجارة الدولية الإسرائيلية، سواء كانت صادراتٍ أم واردات، تتم عن طريق البحر. ولا تزال معظم تجارة الكيان الإسرائيلي الآسيوية تمرّ عبر قناة السويس، وهذا ليس بالأمر الهين، إذ إن حوالي 30% من تجارة “إسرائيل” الدولية تتعلق بالدول الآسيوية، وكل هذه التجارة تمرّ عبر باب المندب.
وبرّرت إدارة بايدن عدوانها على اليمن بأنه دفاع عن “حرية الملاحة” وأعالي البحار. ولكن هذه مجرّد محاولة لصياغة المشكلة بالطريقة التي تناسب أغراض المؤلفين. بالنسبة للأغلبية العظمى من سكان العالم، تدافع الولايات المتحدة عن أعمال النهب المروّعة التي يرتكبها الكيان الإسرائيلي. وبالتالي، ليس من المستغرب أن تحاول وسائل الإعلام الغربية وصف الأحداث في غزة بأنها محاولة “لدحر” المقاومة الفلسطينية. ولكن هذه الخدعة لم تنطلِ على الرأي العام العالمي، الذي بات يدرك حقيقة أنه لم يكن هناك مثل هذا القدر من إراقة الدماء الوحشية في نصف القرن الماضي، وثمّة مخاوف في جميع أنحاء العالم من المذبحة المستمرة التي تغذّيها العرقيات على يد البلطجية القساة الذين يحتفلون بوحشيتهم على تيك توك، إذ تقول وسائل الإعلام الغربية: إن الدولة نفسها التي ترسل قنابل تزن طناً واحداً إلى الكيان الإسرائيلي لقتل النساء والأطفال في منازلهم، يجب أن تحظى بالاحترام باعتبارها “الضامن للأمن الإقليمي” في البحر الأحمر.
في الوقت الحالي، تركّز نخب السياسة الخارجية بشكل شبه حصري على التصعيد، ما يشير إلى أن إدارة بايدن تدرس الآن العمل العسكري، حيث أنشأت بالفعل قوة عمل بحرية متعدّدة الجنسيات، تحت اسم “عملية حارس الرخاء”، للقيام بدوريات في البحر الأحمر “لضمان سلامة السفن التجارية التي تستخدم هذا الممر المائي الحيوي” حسب زعمها.
لكن هذا التحالف المؤقت فشل في بناء الثقة بين عدد من أكبر شركات الطيران في العالم، التي ترفض عبور البحر الأحمر حتى تنتهي الأعمال العدائية، ولذلك فإن الأمر متروك لإدارة بايدن لإيجاد حل قابل للتطبيق ينهي الهجمات ويعيد حركة المرور في البحر الأحمر إلى ما كانت عليه قبل الأزمة. ولكن تشير جميع الأدلة إلى أن بايدن ورفاقه قرّروا أن السبيل الوحيد للمضي قدماً هو تصعيد القتال من خلال قصف المواقع العسكرية في القارة.
ولكن قصف مواقع الصواريخ والبنية التحتية العسكرية للجان الشعبية والجيش اليمني لن يوقف الهجمات على حركة المرور التجارية، بل سيؤدّي ببساطة إلى الدعوة إلى “نشر قوات على الأرض”، وبمجرد فشل حملة القصف، وسوف تفشل، سيتم نشر القوات البرية الأمريكية لشنّ حرب عصابات دموية طويلة في شبه الجزيرة العربية، وهذه هي الكارثة التي تلوح في الأفق بالنسبة للولايات المتحدة؛ وهي كارثة من شأنها أن تزيد من تنفير (وإثارة حنق) حلفاء واشنطن المتراجعين في الشرق الأوسط وتؤدّي إلى طرد أمريكا الحتمي من المنطقة. وحسب محللين أمريكيين، تتمثل الاستراتيجية الأفضل في فتح قناة اتصال مباشرة مع اللجان الشعبية وبدء العملية الشاقة للتفاوض على تسوية دبلوماسية، هذا هو السبيل الوحيد لحل الأزمة، وبدلاً من الانتقام، يتعيّن على الولايات المتحدة أن تفضل النهج الدبلوماسي، ذلك أنه من الصعب التخيل كيف يمكن للغارات الجوية أن تردع هجمات اللجان الشعبية اليوم عندما فشلوا في القيام بذلك على مدى العقد الماضي.
ويجب على واشنطن ألا تكرّر أخطاءها حيث أظهرت عقود من الخبرة الآن أن الجهود العسكرية لطرد اللجان الشعبية من غير المرجح أن تكون فعّالة، بل يمكن ببساطة أن يؤدّي ذلك إلى المزيد من الدمار لحياة سكان اليمن. تجدر الإشارة إلى أن اللجان الشعبية لا تحتاج إلى هزيمة الولايات المتحدة عسكرياً للفوز بالحرب في البحر الأحمر، إنها تحتاج فقط إلى تعطيل حركة المرور بالقدر الكافي لإحداث تأثير سلبي في الاقتصاد العالمي، وهو ما يمكننا القيام به، مع ملاحظة أن جو بايدن شنّ حرباً في شبه الجزيرة العربية دون استشارة الكونغرس ودون إعلان رسمي للحرب، وأيضاً مع ملاحظة أنه يجب الافتراض أن الهجوم على اليمن تم توقيته ليتزامن مع الدعوى التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد الكيان الإسرائيلي بشأن الإبادة الجماعية التي يتعرّض لها الفلسطينيون في غزة.