الاستنساخ الافتراضي حياً وميتاً
غالية خوجة
إلى أين يذهب العالم الافتراضي بالعالم الواقعي؟ وأين القوانين الحديثة التي تنظم أخلاقيات المنتجات الإلكترونية؟ وما الجهات التي تقيّم أفعالها السوداء؟ وما معايير التقييم؟
الاحتلال الجديد لم يعد تقليدياً فقط، لأنه يمارَس من خلال التطور المتسارع للذكاء الصناعي، والذي بلا شك، يقوده ذكاء بشري يبتكره، لكنه قد يصل إلى مرحلة لا يستطيع فيها السيطرة عليه، فتصبح المعادلة عكسية، فيصير المبتكر مستعبداً لأدوات ابتكاره، وهذا ما جعل الإنسان الذي تستلبه وسائل التواصل الاجتماعي إنساناً مسيّراً، مقيّداً، مستهلكاً، تائهاً، منعزلاً، يبتعد وبسرعة عن إنسانيته الطبيعية، وتالياً، تنعكس هذه الآثار الفردية على المجتمع بأكمله، ما يسهّل عملية التفكيك العقلية والنفسية والاجتماعية بمختلف صعُدها، ويجعلها بيئة هشة بلا معايير خلوقة، فتغسل الأدمغة من خلال محوها للقيم الأصيلة الجميلة مثل الصدق والوفاء والأمانة والأثرة والاحترام والبِرّ بالوالدين والانتماء، لتغرس مكانها، وبمساعدة الإنسان ذاته القابل لهذا المحو والغسل والغرس، كل ما هو معتم وضبابي وشائن، لكن، بطريقة دبلوماسية تقانية مقنّعة بالقيم الأهوائيةـ من الهوى والأهواءـ والأخلاق الزائفة التي تبدأ مع غرس الأنانية المفرطة ومخاطبة الأنا في كل إنسان لدرجة يشعر معها بأن الشمس لا تشرق إلاّ من أجله، وأنه محور العالم الافتراضي، حينها، تستطيع السيطرة عليه بإرادته التي أصبح لا يملكها، بل تملكها هذه الأساليب المدروسة الممنهجة في تحويل الظلمة إلى ضوء، والباطل إلى حق، والتشرد والتشتت والضياع إلى انتماء، والخيانة إلى وفاء، خصوصاً تجاه الوالدين والأهل والمجتمع والوطن، وانتزاع الهوية الوجودية الكينونية الوطنية بهوية الكترونية عالمية عائمة تجعل من ساكنيها الإراديين وغير الإراديين سكاناً مستنسخين لا يحتاجون إلى زرع شريحة إلكترونية مباشرة في أدمغتهم، لأنها استعاضت عنها بأساليبها الالكترونية النفسية السيكولوجية والسوسيولوجية، فخدعتهم عن بُعد، بطريقة غير مباشرة، وجعلتهم يتبعونها وكأنهم أولئك المرضى المتأثرين بطبيبهم المختص في التنويم المغناطيسي، لكنه، الآن، طبيبهم المتخصص في تنويم العقول والتفكير والأخلاق، ودفنها في سبات لا نهائي، ليتحكّم بهم عن بُعد تشاركياً معهم، ويريهم مقدراته الخارقة المتنوعة، خصوصاً، وأنه أصبح قادراً على استنساخهم أحياء وأمواتاً، بعيداً عن الأزمنة والأمكنة ومسافة الفراغات، وبوسائل يأجوجية متنوعة منها تقنية “الهولوغرام”، وتقنية “التزييف العميق” القادرة على تقمصهم شخصياً، وتقمّص أمواتهم حرفياً، واستحضار الأرواح صوتاً وصورة وبأبعاد ثلاثية خارج الزمكانية، للتحادث معها، بالإضافة إلى ارتكاب مختلف أنواع الجرائم المعروفة والمبتكرة، وأهمها ما يحدث في الحروب، وما يرافقها من تقنيات تدميرية ممنهجة للبلاد والعباد، سواء في الغرف المظلمة أم السيناريوهات الافتراضية، وليس آخرها ما استُخدم في حربهم على سوريتنا الحبيبة؛ أو من خلال وسائل التجسس الحديثة، وليس آخرها ما استُخدم في حربهم على غزة وفلسطيننا المحتلة.
لا أحد ضد التطور في كل مجالات الحياة، لكن، على التطور أن يكون بانياً لا هدّاماً مدمّراً للإنسان وكينونته ومجتمعه وهويته ووطنه والإنسانية والعالم، لذلك، نلاحظ، عندما تأكل التكنولوجيا مخترعيها كيف توصلهم إلى أمراضهم النفسية عاجلاً أو آجلاً، ومنهم من يفتقد السيطرة على ما اخترعه، فيهرع منسحباً من هول ما صنعت يداه وجنته على نفسه والعالم كما حدث مع أحد المسؤولين في أحد محركات البحث الشهيرة، وكما يحدث يومياً في تلك المؤسسات الافتراضية التي لا تكشف عن ما يجري وراء كواليسها لموظفيها ومخترعيها، لكنها تواصل منهجها السلبي وهي تظن بأنها تمسك بألواح القدر التي تكتب على العالم الشقاء، إلاّ أنها كتبت على نفسها شقاء مضاعفاً لن يغادرها مع رحلتها الأخيرة الأبدية التي ستجعلها في قبر مظلم حتى لو كانت شذرات من ريح ونار ورماد.