دراساتصحيفة البعث

سياسة أمريكية قصيرة النظر

عناية ناصر

علقت عدّة شركات شحن عالمية شحناتها عبر البحر الأحمر وسط تزايد هجمات القوات البحرية اليمنية. وقد حدث ذلك  بعد أن أعلنت الولايات المتحدة عن إنشاء “تحالف عسكري لمواجهة الهجمات”، الأمر الذي أثار تساؤلاتٍ حول مدى نجاحه وما إذا كان مشروعاً في المقام الأول. وكانت دخلت واشنطن، كما هو الحال دائماً، منطقة البحر الأحمر، التي تقع على بعد عشرات الآلاف من الكيلومترات من الولايات المتحدة وحاولت “إضفاء الشرعية” على النقل البحري، وذلك لمصلحة “إسرائيل” في المقام الأول.

وكانت من بين الشركات التي أعلنت مؤخراً الوقف المؤقت للشحن من مضيق باب المندب إلى قناة السويس، شركة النفط العملاقة “بريتيش بتروليوم” التي علقت على عملية الإيقاف بالقول: “في ضوء الوضع الأمني المتوتر للشحن في البحر الأحمر، قررت شركة بريتيش بتروليوم إيقاف جميع عمليات العبور عبر البحر الأحمر مؤقتاً”. وجاء قرار شركة “بريتيش بتروليوم” على خُطا “أم إس سي” أكبر شركة حاويات في العالم، ومقرّها سويسرا، التي قالت: إنها ستتجنب قناة السويس بعد مهاجمة إحدى سفن الحاويات التابعة لها، وأن سفن “أم إس سي” لن تعبر قناة السويس شرقاً وغرباً إلى أن يصبح ممر البحر الأحمر آمناً، وسيتم الآن إعادة توجيه بعض الخدمات لتمرّ عبر رأس الرجاء الصالح بدلاً من ذلك”.

كذلك أوقفت مجموعة شحن كبيرة أخرى مقرّها في الدنمارك، ميرسك، ملاحة سفن الحاويات التابعة لها في المياه حتى إشعار آخر. وانضمّت إلى القائمة شركات شحن عملاقة أخرى مثل “هاباغ لويد”، التي تعرّضت لهجوم على إحدى سفنها، قائلة: “نحن نرسل حالياً سفناً حول رأس الرجاء الصالح”. تقوم المزيد والمزيد من الشركات بإخطار جميع السفن التي تخطط للمرور عبر مضيق باب المندب بتعليق رحلاتها حتى إشعار آخر.

وتوعّدت اللجان الشعبية اليمنية التي تدعم المقاومة الفلسطينية في حرب “إسرائيل” على غزة، بـ”مهاجمة جميع السفن المتجهة من وإلى كيان الاحتلال”، وكانت اللجان الشعبية اليمنية قد شنّت سلسلة من الهجمات على السفن في البحر الأحمر، بالإضافة إلى إرسال طائرات مسيرة وصواريخ تستهدف منشآت عسكرية إسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وأدّت الهجمات إلى زيادة الضغط على الشركات الأخرى التي لا تزال تقدّم خدمات الشحن للكيان الإسرائيلي. ويقول الخبراء: إن استمرار هجمات اللجان الشعبية على السفن المرتبطة بـ”إسرائيل” في البحر الأحمر سيؤدّي إلى قيام المزيد من شركات الشحن بوقف مرورها عبر البحر الأحمر.

جاءت التوترات البحرية نتيجة لارتفاع أسعار النفط العالمية الذي يقدّر بنحو 3%، فضلاً عن عزوف العديد من الشركات العالمية عن استخدام قناة السويس في الوضع الحالي. وتعدّ القناة طريقاً رئيسياً للتجارة العالمية، وخاصة لنقل النفط والحبوب والسلع الاستهلاكية، كما يمر حوالي 15% من حركة الشحن العالمية عبر القناة، وهي أقصر طريق ملاحي بين أوروبا وآسيا، وفي هذا الإطار يجب على جميع السفن التي ترغب في المرور عبر القناة أن تشقّ طريقها عبر البحر الأحمر، والأهم من ذلك، عبر مضيق باب المندب الحيوي، وهو شريط صغير من البحر الأحمر يفصل اليمن عن جيبوتي وإريتريا. وسوف يؤدّي اضطراب التدفقات التجارية الطبيعية إلى ارتفاع الأسعار وتأخيرها، وبالتالي إلى إطالة أمد التوترات، حيث إن طرق التسليم المختلفة ستزيد من رحلة السفينة بآلاف الكيلومترات.

وتفيد التقارير بأن الشركات تقوم برحلات حول إفريقيا بدلاً من ذلك، الأمر الذي يزيد عادة من مسافة السفينة بنحو 5000 كيلومتر. وقد يستغرق وصول الشحنة إلى وجهتها 14 يوماً إضافياً، ما يزيد من تكلفة التوصيل بالنسبة للمستهلكين. وفي هذا الشأن قال لارس بارستاد، الرئيس التنفيذي لشركة فرونت لاين، لوكالة “رويترز”: “إن أقساط التأمين ضد مخاطر الحرب آخذة في الارتفاع بشكل طبيعي، ولكن مع إعادة توجيه السفن حول إفريقيا، فإن إمدادات الشحن ستكون أقل مع سفر البضائع لفترة أطول، وهذا من شأنه أن يضع أسعار الفائدة تحت ضغط صعودي قوي”.  وأشار زفي شرايبر الرئيس التنفيذي لمنصة الشحن العالمية “فريتوس” إلى أنه بالنسبة للسفن المتجهة إلى الكيان الإسرائيلي من آسيا، فإن الطريق حول إفريقيا أطول بكثير، حوالي 7000 ميل بحري و10-14 يوماً مقارنة مع قناة السويس، وهذه الطريق تتكبّد أيضاً تكاليف وقود أعلى.

وفي سياق متصل، قالت مصادر في العديد من شركات الشحن: إن السفن التي لا تزال راسية حالياً في أكبر الموانئ “الإسرائيلية” أسدود في الجنوب وحيفا في الشمال قامت بإيقاف تشغيل أجهزة الإرسال والاستقبال الخاصة بها لتجنّب اكتشافها. ووفقاً للتوصية الصادرة عن جمعيات الشحن الرائدة في العالم “يجب على مشغلي السفن الذين اتصلوا، أو يخططون للاتصال بالموانئ “الإسرائيلية” أن يحدّوا من الوصول إلى المعلومات”.

من جهة أخرى، قالت مصادر في العديد من شركات الشحن: إن تكلفة شحن البضائع إلى الكيان الإسرائيلي عن طريق البحر ارتفعت في الأيام الأخيرة مع إغلاق بعض خطوط الحاويات، بينما تفرض خطوط أخرى رسوماً إضافية جديدة، ما يزيد الضغط على سلسلة التوريد في تل أبيب. ولم يكشف الكيان الإسرائيلي، الذي يعتمد اقتصاده على التجارة البحرية، حتى الآن عمّا إذا كان سيغطي تكاليف النقل الإضافية.

وخلال  حديثه في البحرين، حيث يقع المقر الرئيسي للبحرية الأمريكية في غرب آسيا، أعلن وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن رسمياً عن إنشاء تحالف عسكري متعدّد الجنسيات “لحماية مياه البحر الأحمر”، حيث ستقوم السفن الحربية الأمريكية، التي انضمّت إليها أقمارها الصناعية من المملكة المتحدة والبحرين وكندا وفرنسا وإيطاليا وهولندا والنرويج وسيشيل، بدوريات منتظمة في مياه البحر الأحمر وبالتالي محاولة إنشاء إمدادات عبر البحر إلى “إسرائيل”، التي تقوم حالياً بقتل المدنيين وارتكاب الفظائع في قطاع غزة بمساعدة الولايات المتحدة. وأكّد الممثل الرسمي للجان الشعبية اليمنية أن التحالف الذي شكّلته الولايات المتحدة يهدف إلى حماية الكيان الإسرائيلي. وأضاف: إن هذا لن يمنع اليمن من مواصلة عملياته المشروعة لدعم غزة، مؤكداً أن أولئك الذين يسعون إلى توسيع الصراع سيتحملون العواقب. وفي الختام قال: “بالطريقة نفسها التي سمحت بها أمريكا لنفسها بدعم “إسرائيل” بتشكيل تحالف أو من دون تحالف، فإن شعوب المنطقة لديها الشرعية الكاملة لدعم الشعب الفلسطيني، وقد أخذت اليمن على عاتقها الوقوف إلى جانب الحق الفلسطيني وضد الظلم الكبير الذي تتعرّض له غزة”.

يعرف الأمريكيون جيّداً أن الحرب في اليمن ليست خياراً، نظراً لشجاعة اليمنيين، وعدم شعبية الولايات المتحدة في المنطقة، والبعد الكبير للبحر الأحمر عن القارة الأميركية. ولعل هذا هو السبب وراء وجود العديد من الأصوات المشككة في الولايات المتحدة التي تتحدّث علناً ضد الأعمال العسكرية الجديدة في البحر الأحمر البعيد. والعالم يطرح السؤال: إذا سُمح للولايات المتحدة بفرض عقوبات على العديد من دول العالم وحتى على من يتعامل مع هذه الدول والموجود على “القائمة السوداء” الأمريكية، فلماذا لا يُسمح لليمنيين بمساعدة إخوانهم في فلسطين، الذين يتم قتلهم بوحشية في غزة بمساعدة الولايات المتحدة ذاتها؟.