ساطع الحصري.. رائد الفكر الوحدوي وأهم منظّري القومية العربية
أمينة عباس
كان الهدف من المحاضرة التي ألقاها الدكتور جورج جبور، مؤخراً، في المنتدى الاجتماعي، بمناسبة مرور 55 عاماً على رحيل ساطع الحصري كرائد للفكر الوحدوي العربي، أبعد من مجرد قصّ حكاية لشخصية إشكالية، بل كان الهدف – كما أكد الدكتور جبور في تصريح لـ “البعث” – استحضاراً لتجربة تكون منارة للأجيال الحالية واللاحقة ولأفكارٍ رائدة نبدو، اليوم، بأمسّ الحاجة إليها، بتأكيدها أولوية البعد الوطني والقومي في نسج الروابط بين أبناء البلد الواحد، ومواجهة مشروع الهيمنة الإمبريالية الغربية والتحديات الماثلة أمام الأمة العربية التي تستهدف حاضرها ومستقبلها ومشروعها النّهضوي القومي من خلال المشروع الوحدوي العربي.
أهم منظري القومية العربية
وبيّن جبور أنّ الحصري أحد أهم منظري القومية العربية في النصف الأول من القرن العشرين، وقد ظهر اسمه في خضم التفاعلات السياسية والإيديولوجية التي كانت تعج بها الساحة العربية خلال تلك الفترة، ليتخذ لنفسه مساراً فكرياً خاصاً يقوم على بعث المشاعر القوميّة والتنظير الإيديولوجي للفكرة القومية، فكانت معظم مؤلفاته مشدودة إلى الهم الوحدوي حتى عُرِفَ بفيلسوف القومية العربية، وهو الذي ترك أثراً كبيراً في العواصم العربية الكبرى (دمشق والقاهرة وبغداد وبيروت)، والقائل: “أعتقد أن أول ما يجب عمله لتحقيق الوحدة العربية هو إيقاظ الشعور بالقومية العربية، وبث الإيمان بوحدة هذه الأمة، فعندما يستيقظ هذا الشعور تمام اليقظة، وعندما ينتشر هذا الإيمان ويرسخ في النفوس تمام الرسوخ، تتوضح السبل، وتتمهد الطرق أمام الوحدة العربية، وتزول العقبات وتنهار العوائق التي تعترضها”.
في دمشق وبغداد والقاهرة
وُلِدَ ساطع الحصري، لأبوين حلبيين، في اليمن عام 1879، وتنقّل مع أبيه في الدولة العثمانية التي درس في مدارسها الحكومية، وتخرّج من المعهد الملكي في اسطنبول، عام 1900، وامتهن التدريس في مدارسها وعمل في السلك الحكومي، وتسلّم مناصب إدارية رفيعة، لحين انشقاقه، عام 1918، عن الدولة العثمانية قاصداً دمشق بعد خروج الجيش العثماني. وكان يتكلم العربية بصعوبة، فعُيِّن مديراً للمعارف في سورية، وقام بتعريب المناهج التربوية والتعليمية كلها، كما أعاد افتتاح معهدي الطب والحقوق في دمشق بعد إغلاقهما القسري بسبب ظروف الحرب العالمية. وفي آذار 1920، عُيّن أول وزير للمعارف بعد يوم واحد فقط من تتويج الأمير فيصل ملكاً على البلاد. وعندما وصل إنذار غورو إلى القصر الملكي بدمشق، أرسله الملك فيصل إلى لبنان للتفاوض مع الجنرال الفرنسي بشأنه، لكن من دون جدوى، فتوجها معاً إلى أوروبا للمثول أمام عصبة الأمم للاحتجاج رسمياً. وعندما تُوّج الملك فيصل، عام 1923، ملكاً على عرش العراق، ظلّ الحُصري إلى جانبه وكُلِّفَ بمهام تربوية عدّة، منها وضع المنهاج الحكومي لكل مدارس العراق الذي أصرّ الحصري على أن يكون منهاجاً قوميّاً واحداً عابراً لكل الأديان والطوائف والعرقيّات، كما أسّس كلية الحقوق في جامعة بغداد التي عمل فيها عميداً لها طوال عشر سنوات، وظلّ يدعو إلى فكرة القوميّة العربيّة إلى أن قامت ثورة رشيد الكيلاني عام 1941، حيث غادر العراق باتجاه سورية ثانيةً، وعملَ بصفة مستشار لوزارة المعارف، وقد جُمِعَتْ مقترحاته في كتاب نشرته وزارة المعارف السورية، عام 1944، وحمل عنوان “تقارير عن حالة المعارف في سورية واقتراحات إصلاحها”. وفي عام 1946 توجه إلى مصر وعمل مُدرّساً في المعهد العالي للمعلمين، ثم عميداً لمعهد الدراسات العربية العليا. وفي مرحلة الخمسينيات، كان الحُصري مستشاراً ثقافياً لجامعة الدول العربية التي كان يُصر على تسميتها “جامعة للدول العربية”، لا “جامعة عربية”، باعتبار أن الأخيرة كانت ما تزال بمنزلة “المثل الأعلى الذي تصبو إليه النفوس المدركةُ معنى العروبة”. وعمل الحُصري جاهداً في الدفاع عن القومية العربية في مصر، وكان لا يتوانى عن خوض معارك مع أي أفكار تهدد فكرة “القومية العربية”، واهتمّ بالرد على محاولات بعض المفكرين المصريين صياغة هوية ثقافية مصريّة خاصة تستند إلى التراث الفرعوني، حيث اعترض على كتاب الدكتور طه حسين “مستقبل الثقافة في مصر”، الذي تناول فيه الهوية الفرعونية لمصر، وأفرد خمس مقالات راح يفنّد فيها الأفكار والتوجهات التي ذهب إليها طه حسين.
رائد المنحى العلماني
أصدر الحصري العديد من المؤلفات القومية التي دافع فيها عن فكرة الوحدة العربية على أساس من اللغة المشتركة، داعياً إلى التحرر من فكرة الوحدة على أساس الدين، وهو ما جعل باحثة روسية تعدّه رائد المنحى العلماني في الفكر القومي العربي، وقد استطاع الحصري أن يؤطر نظرية متكاملة في القومية العربية قدم فيها عدداً مهماً من المؤلفات، في مقدمتها “محاضرات في نشوء الفكرة القومية”، و”ما هي القومية؟”. وكان مدافعاً عن فكرته ومبرهناً عليها من خلال كتابيه “العروبة بين دعاتها ومعارضيها”، و”آراء وأحاديث في القومية العربية”، مستفيداً من العديد من المفكرين الغربيين، من أمثال لوتورنو، ورينان، وغيرهما، ليخط اتجاهاً آخر في الفكر العربي يتمحور حول مقولتين: “اللغة تكوّن روح الأمة وحياتها”، و”التاريخ يكوّن ذاكرة الأمة وشعورها”.
تلتْ المحاضرة التي أدراتها الدكتورة سحر سعيد مناقشات كثيرة حول شخصيّة ساطع الحصري ومسيرته وأفكاره.