فرّوا من غلاء المدينة فوقعوا بمصيدة الخسائر.. الهجرة إلى الريف “عودة غير موفقة” في ظل غياب الدعم!
ضاق صدر المدينة بأبنائها بعد أن اختنقت هي الأخرى بصعوبات الحياة، فبدأت مراكز المدن تشهد هجرة أو نزوح –إن صح التعبير- أهل الريف إلى قراهم، أملاً بحياة أفضل قد تقدّمها الأرض، انطلاقاً من مبدأ “ما بيحك جلدك غير ضفرك”، فبعد أن كانت المدينة تقتحم أحلام أبناء الريف لتصبح غايتهم المشتهاة وتدفعهم لترك حقولهم، باتت في الوقت الحالي كابوساً يحول بينهم وبين تأمين أدنى متطلبات الحياة، فهل حقيقة أن الأرض تعطي وتشبع وتحمي، أمر واقع أم هناك أيضاً ما يمنع أن يجعل منها ملاذاً آمنا “للفقير”؟!.
وجعٌ متخفٍّ
نسمع في المجالس الكثير من القصص التي يغلّفها العزم ونيّة الكثيرين بالعودة إلى حقولهم وزراعة ما يمكن زراعته حول المنازل والأراضي من خضار وفواكه ومحاصيل تقيهم شر العوز، فمن جانب يتخلّص “المتمني” من إيجار البيوت الكاوي التي يتحكم فيها أصحاب المكاتب العقارية ومالكو المنازل، ومن جانب آخر يأكل هو وأبناؤه مما تنتجه أرضه، هذا هو السيناريو الذي يتوقعه من يرغب بترك المدينة والفرار من غلائها وقساوتها إلى القرى، غير أن حقيقة ما يعانيه الفلاح لا يدركه إلا القلة القليلة، وقسم آخر يعي المشكلة ويقف موقف المتفرج ينتظر معجزات السماء!.
هجرة عكسية
رياض أبو حسن والد لثلاثة أبناء، مستأجر في أحد الأحياء الشعبية بـ450 ألف ليرة، يعمل عمل يومي بورديتين صباحية ومسائية، يحكي لـ”البعث” عما لاقاه خلال السنين الماضية من قسوة العيش وضغوطات المصاريف المتنوعة، ما بين البيت والمواصلات ومدارس الأبناء، فلم يجد حلاً سوى العودة لقريته، فهو هناك يملك بيتاً صغيراً ومساحة لا بأس بها يمكن زراعتها إلى جانب بعض الأشجار المثمرة، آملاً أن تكون فرصته أفضل مما هي عليه الآن. أما ماجد المتقاعد مبكراً من عمله بأحد قطاعات الدولة فقد خرج منها دون أن يستطيع شراء غرفة في دمشق، وهو المتزوج من موظفة أيضاً ولديهم ولدان في المدرسة وفتاة صغيرة في إحدى الرياض الخاصة بحي عشوائي على أطراف العاصمة، وهم كغيرهم يكتوون بارتفاع الأسعار، فغداء بسيط لعائلته يكلفه ربع راتب زوجته إلى جانب إيجار المنزل والروضة الخاصة واحتياجات الأبناء، لذا ينوي العودة إلى الريف لضمان حقل صغير والعيش مما قد تنتجه أرضه، أما سمر التي شدّت رحالها نحو المدينة وأنهت دراستها الجامعية و”ظفرت” بوظيفة حكومية، فتستهزئ بالراتب الذي تتقاضاه مقابل عمل أبناء الريف في الحقول، فهم يتقاضون على الساعة 5000 ليرة، في حين لا يتجاوز راتبها 260 ألف ليرة، وتفكر جدياً بالعودة والعمل في الأرض إلى جانب وظيفتها.
عودة غير موفقة
سابقاً ربما كانت خيارات السفر إلى المدن أفضل الحلول لكسب حياة كريمة، أما اليوم فقد باتت الحياة صعبة بكل المقاييس وفي كل مكان، في هذا الخصوص يوضح أكرم عفيف الخبير في التنمية الريفية في حديثه لـ”البعث” أن الضغط الاقتصادي على ابن الريف كان بسبب تفتّت الملكيات ونقص الحيازات وعدم كفاية الإنتاج الزراعي، فقصد المدينة للبحث عن فرص العمل، سواء وظائف أو عمل في الورشات والمعامل أو في القطاعات الأخرى، مضيفاً: اليوم الغلاء الفاحش ونقص الدخل أدى إلى استحالة هذا العيش، فجزء من أبناء الريف عادوا إلى أريافهم لكن “الرجعة غير موفقة”، في القرية، على حدّ تعبيره، تستطيع أن تأكل فقط، فزراعة مساحة 100 متر أو تربية بعض المواشي والطيور تمنح الطعام، لكن متطلبات الحياة الباقية من المؤكد أن هذه المساحة لا توفرها، وحتى الـ100 م2 يصعب زراعتها في ظلّ قطع الكهرباء الطويل والقاسي، ونقص المياه وغلاء المازوت وعدم توفره.
وبيّن عفيف أن الغلاء وضيق العيش في المدينة يدفع الإنسان للهجرة، غير أن ما يتخيّله المرء من حياة هانئة تنتظره يختلف تماماً عن الواقع، ففي القرية لا يوجد مال حكماً لكن هناك طعام، والمال المتوقع هو ما يقدمه الفلاح عناء تعبه على موائد السوريين بصورة طعام بدءاً من لقمة الجبنة إلى اللحوم بأنواعها، ويتابع خبير التنمية: في الصيف 200 متر مربع قد تمكّن الإنسان من تحضير غداء لخمسين شخصاً من إنتاج هذه المساحة الصغيرة، لكن لا يمكن أن تعطي مالاً يكفي لتعليم الأولاد والوقاية من الأمراض والتحصين للمستقبل، غير أن قدسية العلاقة ما بين الفلاح والأرض تمنعه من تركها، فهو يعيش على الأمل، وكما يقال إذا أردت أن تعرف فضل الفلاح بعد الله عليك النظر إلى الطعام الذي أمامك وبين يديك.
مطب التسعير مجدداً
متاعب العمل الزراعي كبيرة ومضنية، كذلك الجهد الذي يبذله الفلاح والذي لا يتوافق مع ما يتقاضاه من أثمان. ويوضح الخبير عفيف أن احتمال زراعة مساحات كبيرة تجابهها تكاليف الضمان وصعوبات العمل، إضافة لسياسة تسعير المحاصيل الخاطئة من قبل الحكومة والتي أدّت لخسائر كبيرة وخروج المحاصيل الرئيسية والصغيرة من المخطط الفلاحي لتصبح فكرة قتل للمنتجين لمصلحة المستوردين والتجار الفاسدين هي السائدة في روزنامة الفلاح، ما دفع الكثيرين للعزوف عن زراعة معظم المحاصيل المهمة، متناسين أنه من دون فلاح لا يوجد طعام، وهو ذو فضل على الجميع، ومع ذلك هو أكبر خاسر، والأرض -بحسب عفيف- تحتاج لشيء مختلف فالعمل الزراعي مظلوم والفلاح أيضاً والنتائج ليست كافية، والعامل الزراعي قد يكون أجره جيداً لكنه غير دائم أو متوفر، لذلك يحتاج شيئاً آخر وطريقة مختلفة، بحيث ريعية الإنتاج تكون كافية للاستمرار وتمكين الفلاح في أرضه وحياته، قد تكون سورية كبلد زراعي لا خوف عليها من الجوع، لكن الخوف عليها من الانكسار.
لا أثر إيجابي
بدوره المهندس الزراعي أحمد خضرة أحد المهتمين بالشأن الزراعي بيّن أن تفتّت الحيازات الزراعية، وعدم توفر مشاريع تنموية في الريف، وزيادة تكاليف الإنتاج الزراعي بشكل كبير بشقيه النباتي والحيواني، كانت كلها دافعاً لكل شرائح المجتمع للهجرة، لكن للأسف إلى خارج القطر، ومع كل الصعوبات في المدينة تبقى الحياة في الريف أفضل على مستوى المعيشة، مشيراً إلى أن الحكومة والفعاليات الأخرى ليس لها أي أثر إيجابي على تحسين دخل الأرياف، فلا صناعات يدوية متوفرة وهناك غياب واضح لتشجيع تربية الثروة الحيوانية من أبقار وأغنام أو ماعز أو أسماك.
لماذا لا تصححون الأخطاء؟
قد تكون الأفكار التي يتمّ طرحها لاستنهاض العزائم والنهوض بالريف جميلة وسهلة وممكنة، لكن السؤال لماذا لا يتمّ الأخذ بها، فسرد عفيف عن أن ابن الريف لا يحتاج للكثير من العناء، فقط السماح للمحاصيل بالإنتاج بحيث يأكل ويتعلّم بالحد الأدنى، شروط سهلة وواقعية، غير أن حديثه عن إيقاع الفلاح بخسائر التسعير كالقمح الذي سعّر بـ4200 وتكلفته 6500 ليرة تجعلك تدرك أن عزوف الفلاح عن زراعة القمح مرة أخرى أمر طبيعي، وهذا ما ينطبق، بحسب كلامه، على القطن والشوندر والكثير من المحاصيل المرتبطة بالحكومة وغير المرتبطة كالتي لا تشتريها، هي أيضاً وقعت بيد التجار الذين تلاعبوا بالأسعار ودمروا الإنتاج والمنتجين، للوصول بالتالي إلى بلد زراعي بلا زراعة وهذا ما يحصل اليوم، مؤكداً أن كلّ ما تحتاجه الأرض هو دعم قطاع الإنتاج الزراعي وخفض تكاليفه وزيادة الريعية.
نجوى عيدة