الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة وتدنّي مستوى الديمقراطية
ريا خوري
ما زال المشهد الانتخابي على رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية يأخذ منحى الصراع، وليس التنافس، بين المرشحين الرئيسيين، الرئيس السابق، الجمهوري دونالد ترامب، والرئيس الديمقراطي الحالي جو بايدن، حيث اتسم الصراع بسمة شخصية، فضلاً عن كونه صراعاً بين حزبين. وهذا الصراع بات يشكّل خرقاً لأسس بنية النظام السياسي الأمريكي، ويهدّد ما تبقى من ركائز وأسس ديمقراطية في الولايات المتحدة، وكأنه يؤكد أفول ما تسمى (الديمقراطية الأمريكية) التي باتت مشوهة أكثر من ذي قبل، وذلك لعدم وجود حزب أو أحزاب أخرى في الولايات المتحدة تشترك في التنافس الحر بشكل ديمقراطي على الرئاسة يمكنها أن تمثل معظم شرائح الشعب الأمريكي، بالإضافة إلى خضوع الانتخابات بشقيها التشريعي والرئاسي إلى المال الانتخابي، المدعوم من القوى الاقتصادية ومجمّعات الصناعات الحربية وأصحاب الكارتيلات الضخمة، وقدرة المرشحين على جباية المزيد من الأموال من اللوبيات الأمريكية النافذة، مثل اللوبي اليهودي (إيباك) وغيره. وبالتالي فإن المال الانتخابي يؤدّي دوراً رئيسياً ومهمّاً في تحديد السياسات الداخلية والخارجية داخل الكونغرس بمجلسيه الشيوخ والنواب أو البيت الأبيض، كما أن صحة التمثيل الشعبي في الولايات المتحدة يشوبها خلل كبير، إذ إن الشعب الأمريكي لا ينتخب رئيسه بشكلٍ مباشر، بل يتم حسم النتائج النهائية عن طريق المجمع الانتخابي (538 عضواً)، فحين يتوجّه الأمريكيون إلى مراكز الاقتراع في الانتخابات الرئاسية لينتخبوا مرشحهم هم في الواقع يصوّتون لمجموعة من كبار المسؤولين الذين يشكّلون المجمع الانتخابي، وهم مجموعة من الأشخاص لهم مهمّة مشتركة محدّدة، وهؤلاء هم من يقومون بانتخاب الرئيس ونائبه.
فإذا كان الحزب الجمهوري يوصف بأنه يميني شعبوي محافظ مناهض للهجرة، فإن الحزب الديمقراطي يوصف بأنه يساري ليبرالي، مدافع عن القيم الليبرالية والتعدّدية التي تُمثِّلها الولايات المتحدة الأمريكية.
الأسئلة الأساسية هنا في هذا السياق تنبع من معرفة طبيعة الأيديولوجيا الحاكمة لهذا التحالف الكبير، ولتلك العقلية المتمترسة خلف مفاهيم وآراء ومناهج سياسية واقتصادية، حيث يُقدِّم خطاباً ليبرالياً يحتفي بالتنوّع والتعدّدية الثقافية والاجتماعية والإثنية ويدافع عن الأقليات، في الوقت الذي يصف فيه خصمه السياسي بأنه عدو وجودي وخطر جذري على الولايات المتحدة الأمريكية كلها، وأن أنصاره من الجمهوريين هم مجموعة من المتعصبين اليمينيين الشعبويين القليلي الثقافة والتعليم، فهل انتصرت الليبرالية الأميركية بمكوّناتها المتعدّدة على أعدائها فعلاً؟.
السؤال الأهم هنا هو ما مدى تماسك هذا التحالف الذي من المفترض به أن يقف في وجه أي موجة شعبوية يمينية عنصرية قادمة كالتي تجتاح أوروبا؟.
إلا أن النهج السياسي الخارجي للحزبين الجمهوري والديمقراطي متشابه إلى حد كبير، وهو يشبه جناحي طائر، لا يستطيع التحليق بجناح واحد.
الجدير بالذكر أن القضايا الداخلية مهما تشابكت وتعقدت فإنها في النهاية تحتل الأولويات في العمل الحزبي والرئاسي وتكون عناوين واضحة لكلا المرشحين المتنافسين على الرئاسة، فهي تحتل صدارة الحملات الانتخابية الضارية بين الرئيسين.
المتابع لمجريات الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة في الآونة الأخيرة يدرك مدى الحدّة فيما يتعلق بـ(الديمقراطية الأمريكية)، والمخاوف من صعود اليمين الشعبوي المتطرّف في حال فوز الرئيس السابق الذي وصف الرئيس الحالي بايدن في تجمّع انتخابي بولاية (إيوا) بأنه (الأسوأ) في التاريخ السياسي والحزبي للولايات المتحدة الأمريكية، مؤكداً أن الولايات المتحدة في تراجع كبير وسيعيدها من الجحيم، متباهياً بأنّه المرشح الرئاسي الوحيد القادر على إنقاذ الولايات المتحدة الأمريكية ممّا خرّبه الرئيس الحالي وما أحدثه من كوارث في الولايات المتحدة على كثير من الصعد. وقد تحاشى ترامب الإشارة إلى ذكرى هجوم أنصاره من اليمين الشعبوي المتطرف على مبنى الكابيتول يوم 6 كانون الثاني 2023 وما أحدثوه من خراب وضرب لبنية النظام الأمني الرئاسي وبنية النظام السياسي للولايات المتحدة، لكنه وصف المعتقلين على خلفية ذلك الهجوم بـ(الرهائن)، لذا فإنه في حال فوزه بالانتخابات الرئاسية المقبلة سوف يصدر عفواً شاملاً عنهم، مؤكداً إصراره على تحقيق حلم الفوز والدخول من جديد إلى البيت الأبيض في شهر تشرين الثاني للمرة الثالثة.
أما بايدن فقد اتهم ترامب في خطابٍ له ألقاه مؤخراً بولاية بنسلفانيا بأنه (مستعد للتضحية بديمقراطية الولايات المتحدة من أجل الوصول إلى البيت الأبيض)، مبيّناً أنّ منهجه السياسي الجديد وشعاراته التي يرفعها في حملته الانتخابية الرئاسية المقبلة تتمركز حول ما إذا كانت الديمقراطية الأمريكية لا تزال قضية مقدسة في الولايات المتحدة، وواصفاً أسلوب ترامب بأنه يتعارض مع القيم والقواعد الأمريكية الأساسية، ومتهماً إياه باستخدام خطاب عنصري كالذي استخدمه أدولف هتلر في عصر ألمانيا النازية، قائلاً: إن الرئيس الجمهوري السابق ترامب (يتحدث عن دماء الشعب الأمريكي المسمومة)، مستخدماً بالضبط الخطاب نفسه الذي استخدمه هتلر في ألمانيا النازية.
لقد ازدادت الادّعاءات القضائية ضد ترامب، وكان معظمها له علاقة بالشؤون التجارية والمالية والعقارات، لكن على الرغم من كل تلك الاتهامات القضائية الموجهة إليه التي يمكن أن تزجّ به في السجن بسبب محاولته تزوير نتائج الانتخابات الرئاسية عام 2020، صدر قرار قضائي برفض منح الرئيس السابق ترامب الحصانة في اتهامات (قلب) الانتخابات الرئاسية وتزويرها. وكان ترامب تحرّك لرفض الدعاوى القضائية المرفوعة ضده لعدة أسباب، بما في ذلك الحصانة الرئاسية، حيث رفض قاضٍ، منحه الحصانة من تهم جنائية تخصّ تصرفاته وسلوكه خلال توليه الرئاسة في القضايا التي تزعم محاولته تغيير وقلب نتائج الانتخابات الرئاسية عام 2020، كما ستتم مقاضاته بالدعاوى المتعلقة باقتحام مبنى الكابيتول التابع للكونغرس الأمريكي في 6 كانون الثاني عام 2021، (في قرار طال انتظاره ويحمل تبعاتٍ وعواقب وخيمة) صادر عن محكمة الاستئناف الفيدرالي في واشنطن.
فعلى الرغم من تلك الاتهامات إلا أن استطلاعات الرأي كانت قد منحته الأفضلية على الرئيس الحالي بايدن في خمس من أصل ست ولايات رئيسية، كما أن دونالد ترامب تفوق بنسبة ٦٠% على منافسيه الرئيسيين رون ديسانتيس، ونيكي هايلي.
إن حجم التنافس الذي وصل إلى حدّ الصراع بل حدّ التناحر بين المرشحين الرئيسيين ترامب وبايدن يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن الديمقراطية الأمريكية تخطو بشكلٍ متسارع نحو الانحدار.