محمّد عبد الكريم “أمير البزق” من دون منازع
فيصل خرتش
وُلِدَ محمّد عبد الكريم في عام 1911 في حي الخضر، أحد أحياء مدينة حمص، وكانت أمّه “عماشة” تتمتع بصوت جميل، وكان والده “علي المرعي” يعزف لها على البزق عندما تغني.
فتح الطفل عينيه على الفن، ونمت ذائقته الموسيقية وهو يسمع أنغاماً ويرى بين يدي أبيه وشقيقيه من أبيه، وكان أوّل شيء عمله، عندما وعى قليلاً، هو أنه جلب قطعة خشب، وثبّت عليها مسمارين وشدّ وتراً، وراح يعزف عليها، مقلّداً الذين حوله، ورآه والده فجاء إليه، وظنّ أنه سيؤنبه، لكنّ الوالد تفحص قطعة الخشب وابتسم، ثم جاء بالبزق ووضعه في حجر ابنه الذي أخذه وراح يدندن عليه.
أصيب محمّد عبد الكريم وهو في الرابعة عشرة من عمره إصابة بليغة في ظهره، وذلك إثر حادث تصادم، فاحدودب ظهره وتوقّف نمو جذعه.
أدخل عبد الكريم إلى الكلية الإنجيلية في حيّ باب السباع ليتعلم، فمكث فيها فترة ثم تركها إلى البزق الذي أتقن العزف عليه، وانضم إلى الفرقة الصغيرة التي اشتهرت في حمص، فصارت تحيي الأفراح والأعراس، وطاب السهر في ليالي الميماس على الصوت الصافي واللحن المجنون، وأصبح الحضور يطالبونه بالعزف منفرداً، وكان صوته قريباً من صوت أمّ كلثوم.
انطلقت الفرقة إلى المدن السورية، تعزف وتغني وترقص في جميع الحفلات، وتجلّت براعة محمّد في قدرته الفائقة على عزف أي مقطوعة موسيقية في وقت قصير، ولم تكن مهارته مقتصرة على آلة البزق، إنّما على العود الكبير والعود الصغير، وفي فترة الشباب تعرّف على نادي دوحة الميماس الموسيقي، فانتسب إليه وصار عضواً فيه، ثم سافر إلى بيروت برفقة عازف الكمان الشهير سامي الشوا، وهناك التقى بفنانين وعازفين مشهورين أعجبوا بأدائه، وأثنوا عليه، ثم زار مدينة دمشق وتعرف فيها على الشاعر فخري البارودي الذي سُحر بأدائه وقدّمه على أنّه أعجوبة عصره.
لم يكن محمّد عبد الكريم عازفاً بارعاً على البزق فحسب، بل كان يحسّ بأن هذه الآلة تملك إمكانيات غير محدودة وبحاجة إلى تطوير دائم، فعدّل فيها وطورها لتلبي احتياجاته وعطشه إلى أنغام تستطيع أن تعبّر عن إمكانيات غير محدودة لتواكب الآلات الموسيقية الأخرى أثناء العزف، فعمل على زيادة عدد الأربطة التي تُلف على الزند، ويعود الفضل إليه في أنّه أوّل من أدخل “التانغو” و “السيراناد” على البزق، كما أضاف إليه أوتاراً جديدة، لذلك كان يقال فيه “وزاد في الطنبور نغماً”.
في عام 1934، زار عبد الكريم مدينة حلب، والتقى بمحبّي الطرب، ثمّ زار مصر وسجّل أسطوانات على البزق في شركة “اوديون”، كما سجّل بصوته عدداً من الأغنيات، منها “أفديه إن حفظ الهوى”، وعزف في دار الأوبرا بأصابع قدميه على أوتار البزق، وفي بغداد صفق الجمهور كثيراً لـ”أمير البزق”.
بعد ذلك، سافر عبد الكريم إلى القدس ليعمل في إذاعة الشرق الأدنى، ثم إلى إنكلترا، وهناك سجّل للإذاعة كثيراً من المقطوعات والارتجالات الموسيقية بما فيها شعار المحطة التي كانت تقدّمه قبل الافتتاح، ثم عاد إلى القدس ليرأس الفرقة الموسيقية في الإذاعة، وعندما افتتحت إذاعة دمشق، عاد إلى بلده، واستقر فيها، وعمل في إذاعتها عازفاً وملحناً طوال حياته، وأغنى مكتبتها بكثير من الألحان والأغنيات الشرقية الأصيلة الخالدة.
كان محمّد عبد الكريم يسمع كثيراً ويعزف ويطرب، ولا يعزف للناس، بل يعزف لمزاجه، عمل “التانغو” و”الفوكستروت” و”السيرناد” و”الرومبا” و”الفرانكو آراب” وأبدع، وفتح بعمله هذا فتحاً لم يجاريه فيه أحد، وألّف “اللونغا” والسماعي وعدداً من المعزوفات التي تحتاج إلى مهارة كبيرة، ومنها “رقصة الشيطان”، يقول الأمير: “عشت عمري وحيداً، لم أعزف مع أحد ولم أقلد أحداً، فالشيء الروتيني والتكرار لا يوجد فيه إبداع أو خلق ويبقى محدوداً، أمّا الذين يعملون إبداعاً، فهؤلاء قلائل، وهم النوابغ، إنهم الموسيقيون الحقيقيون”.
لحّن عبد الكريم لعدد كبير من الفنانين والفنانات، وكانت ألحانه سبباً في شهرتهم، ووضع أكثر من مئة أغنية، كان أشهرها “رقة حسنك وسمارك” التي غنتها الفنانة نجاح سلام، وغنت له سعاد محمّد عدداً من الأغنيات، أشهرها “مظلومة يا ناس”، أمّا أشهر أعماله فكانت “بين أشجار الصنوبر” و “تحت العريشة” و “رقصة الصبايا”.
بعد هذا العطاء الفني الكبير، اعتزل محمّد عبد الكريم الحياة الفنية، وآثر العيش وحيداً، وفي الثلاثين من كانون الثاني من عام 1989، عزف الموت بأصابعه الباردة قصة حياة “أمير البزق” محمّد عبد الكريم، وختمها بتوقف قلبه في أحد مستشفيات دمشق.