إعادة استحضار “حل الدولتين”
بسام هاشم
مع بدء عملية “طوفان الأقصى”، عادت الإدارة الأمريكية لاستحضار “حل الدولتين”، كإطار تأمل أن من شأنه تسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي المتواصل منذ أكثر من خمسة وسبعين عاماً.
ورغم أن ما أظهرته هذه الإدارة، حتى الآن، لا يعكس إلا صورة قاتمة للرئيس بايدن، وهو يطلق يد نتنياهو في تدمير غزة، وإبادة الفلسطينيين فيها، أو تهجيرهم منها، وسط مخاوف أمريكية متزايدة من احتمال التورط في صراعٍ مكلف آخر في الشرق الأوسط، إلا أن “حل الدولتين” الذي يتحدث عنه بايدن باستمرار، وتقترحه الولايات المتحدة لإنهاء الصراع، شيء آخر مختلف تماماً عمّا يتصوره الفلسطينيون، على الأقل، كمستقبل لهم. فالانحياز السافر، واللغة المزدوجة، يبدّدان أي لبس بشأن حقيقة الموقف الأمريكي تجاه إقامة الدولة الموعودة، ويتركان طافياً على السطح مشروع المحافظين الجدد لـ”استئصال” المقاومة، وإقامة نظام مطواع، في منتصف الطريق لعودة السلطة الفلسطينية، أو “تحالف الراغبين” من العرب، لتولي المسؤولية الأمنية.
وللمفارقة الغبية، فإن “حل الدولتين” الذي تتبناه إدارة بايدن اليوم يرتكز برمته على فرضية بائسة تنطلق من الثقة بقدرة نتنياهو على إلحاق هزيمة نهائية بالمقاومة، وأن الفلسطينيين لا بد سينصاعون للعملاء الذين ستختارهم واشنطن وتل أبيب، وأن أية قوات أمنية عربية، في حال استقدامها إلى هناك، ستكون مستعدة للعمل كطابور خامس، وسط تجاهل كامل لحقيقة أن المقاومة تحظى بالدعم الشعبي الكامل، في فلسطين وخارجها، وأن حركات المقاومة لا يمكن أن تندفن طالما أن شروط الهيمنة الأجنبية لا تزال قائمة، رغم ما يمكن أن يطرأ على مساراتها؛ علاوة على أن القضية الفلسطينية تعبر اليوم نقطة انعطاف تاريخية، حيث تئنّ “إسرائيل” كقوة إقليمية ضعيفة تحت ضربات المقاومة، ما يعني اضطراداً أن هيمنة الولايات المتحدة نفسها ونفوذها يتضاءلان أيضاً؛ وأن الولايات المتحدة في محاولتها لإعادة وضع “حلّ” ما على الطاولة إنما تعمل على إنقاذ نفوذها العالمي المتضائل في عالم التعدّدية القطبية.
عملياً، تستحضر إدارة بايدن “حل الدولتين” في محاولة لذرّ الرماد في العيون، والتغطية على الجرائم البربرية التي يمعن نتنياهو في ارتكابها يومياً في مختلف المناطق الفلسطينية، متوسلاً الدعم المعنوي والروحي من قراءة “التوراة المقدسة”.. إنها تطبق حرفياً سياسات ترامب، مبقية على كل قراراته بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس “العاصمة الموحَّدة” للكيان الصهيوني، وكذلك اعترافه بـ”يهودية الدولة”. لقد استبدلت “الحل”، فعلياً، برعاية “الاتفاقات الأبراهامية”، محاولة الإيهام بأن التسوية ممكنة في الشرق الأوسط دون الفلسطينيين، ودون حقوقهم، في إطار مشروع “صفقة القرن” للهيمنة المشتركة الأمريكية – الإسرائيلية، ليس على فلسطين وحدها، بل وعلى كامل منطقة الشرق الأوسط.
ما لا تريد واشنطن الاعتراف به، ومعها الاتحاد الأوروبي، أن الصراع العربي- الإسرائيلي بات يأخذ أبعداً جديداً خلال السنوات الأخيرة، مع صعود محور المقاومة، فـ”إسرائيل” لم تعد تتمتع بموقع القوة المهيمنة في المنطقة، والولايات المتحدة لا تزال تتمتع بقوة لا مثيل لها في الشرق الأوسط، لكن نفوذها يتضاءل مع ظهور حقائق جديدة.
إن مشكلة بايدن أنه يعتمد – كما يبدو – على مستشارين ينظرون إلى العالم من منظور التفوق الغربي والمهمة الحضارية لصياغة سياساته تجاه “إسرائيل” والشرق الأوسط. غير أن البيئة العالمية أصبحت معقدة للغاية، وهي تتغير بسرعة، وأن المشكلة لم تعد تتمثل فقط في تفريط “حل الدولتين” بأبسط الحقوق الوطنية والتاريخية للشعب الفلسطيني، وفي افتقاره إلى عناصر السيادة، بل وأيضاً في أنه بات مستحيلاً عملياً، وفي أن “عملية السلام” لم يعد ممكناً وضعها تحت، في نهاية المطاف، إشراف الولايات المتحدة.
أمس، مضى الاتحاد الأوروبي خلف الموقف الأمريكي بدعم حل الدولتَين، ومن دون الإعلان عن أي خطة تنفيذية، وهو ما تريده “إسرائيل” تماماً، لأنه يزيد شهيتها لابتلاع المزيد من الأرض وزيادة عدد المستوطنين والمستوطنات وقتل حل الدولتَين. وليس بعيداً عن مرتسمات ترامب، دعا الأوروبيون لعقد مؤتمر تحضيري تشارك فيه “الدول الراغبة” إياها.. يبدو أن أحداً لم يكلف نفسه عناء قراءة التاريخ، ولا حتى وقائع السنوات الثلاثين الماضية.. وما من أحد يريد أن يصدق أن عملية “طوفان الأقصى” أهالت التراب على اتفاق أوسلو نهائياً، ومعه حل الدولتَين، وكذلك مبادرة السلام العربية.