دراساتصحيفة البعث

محكمة العدل الدولية على المحك

ريا خوري

بعد ما شهده العالم من قتلٍ وتدمير وحرق وانتهاك للإنسان وحقوقه المسلوبة في فلسطين بشكلٍ عام، وقطاع غزة بشكلٍ خاص، بات العالم الغربي يتساءل بصوتٍ عالٍ حول تحقق العدالة الدولية التي بُنيت على أنقاض الدمار والتهجير القسري وعمليات الإبادة الجماعية (الجينوسايد)، أم يستمرّ بدعمه المطلق للكيان الصهيوني الذي يمارس أبشع الجرائم بمنطق العدالة المؤجّلة. تلك التساؤلات تزايدت بعد انعقاد أولى جلسات محكمة العدل الدولية في لاهاي للنظر بالدعوى التي رفعتها دولة جنوب إفريقيا ضد الكيان الصهيوني الذي يرتكب الإبادة الجماعية بحق الشعب العربي الفلسطيني.

المؤمنون بالعدالة يدركون مدى أهميتها لأنها شكّلت مطلباً إنسانياً ملحّاً وضرورياً منذ الصيرورة الأولى للتاريخ الإنساني كمدخل لترسيخ وتثبيت احترام القوانين والتشريعات الدولية وتعزيز الأمن والسلام. وعلى المستوى العالمي، ومع تطوّر المجتمعات بكل مكوّناتها برز الكثير من المبادرات الهادفة لإرساء قضاء يحكم بالعدل يدعم المساهمة العملية الفعَّالة في حفظ الأمن والسلم الدوليين.

وعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي بُذِلَتْ في هذا المجال وما تمخَّض عنها من مكتسبات كبيرة وواضحة تجلّت في إحداث عدد من المحاكم الدولية، بقيت هناك صعوبات كبيرة وكثيرة تزيد من عرقلة تحقيق العدالة الدولية التي تنشدها الشعوب المضطهدة.

إنَّ من يقرأ التاريخ السياسي والعسكري يدرك تمام الإدراك أنّ للحروب الكبرى والنزاعات التي مرَّ بها العالم في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، أثراً وأهمية كبيرين في إنضاج وتفعيل فكرة تشكيل مؤسسات دولية سياسية وقانونية واقتصادية، توكل إليها مهمّة التنسيق بين الدول والممالك والإمارات في مختلف المجالات وتثبيت الأمن والسلم الدوليين.

وفي هذا الإطار، تم العمل على إحداث المحكمة الدائمة للعدل الدولي التي تعدّ أوَّل محكمة دولية دائمة بموجب البند العاشر من عهد عصبة الأمم عام 1919م عندما نصّت المادة 14 من عهد العصبة على تكليف مجلسها الأعلى بإعداد مشروع محكمة دائمة للعدل الدولي تتمتع بصلاحيات واسعة، حيث أصبح النظام الأساسي للمحكمة الدائمة للعدل ساري المفعول في 16 كانون الأوَّل عام 1920، وكانت تسمّى آنذاك المحكمة العالمية ومقرّها في لاهاي بهولندا.

لقد أسهمت محكمة العدل الدولية بشكل كبير في إثراء القانون الدولي عبر إصدارها مجموعة من الأحكام والقوانين القضائية والآراء الاستشارية المهمة. وبعد انهيار عصبة الأمم، تأسّست محكمة العدل الدولية كجهاز رئيسي كامل للأمم المتحدة، حيث اعتبرت بموجب المادة 92 من الميثاق الأممي بمنزلة الجهاز القضائي الرئيسي المعتمد لدى المنظمة، وقد حدَّد مسارها بمقتضى نظامها الأساسي الذي تم اعتماده وتوثيقه والمرفق بميثاق الأمم المتحدة، حيث تعدّ جميع الدول أعضاء الأمم المتحدة طرفاً فيه.

وعلى الرغم من كون الميثاق الأممي نصّ على اعتبار محكمة العدل الدولية أحد أهم الأجهزة التي يقع على عاتقها تحقيق الأمن والسلم الدوليين على المستويين الوقائي والعلاجي، إلّا أنَّ هناك مجموعة من العقبات والصعوبات التي تمنع استئثار هذه الهيئة بمهامها على أكمل وجه، ذلك أنَّ ربط هذه المؤسَّسة بالمنظمة الأممية يجعلها تخضع في نهاية المطاف لموازين القوى داخل هذه الهيئة، وخاصة إذا ما أدركنا أنَّ الميثاق الأممي بموجب المادتين (36) و(37) منه يمنح مجلس الأمن  الدولي إمكانية عرض نزاعات وصراعات قانونية عليها (المادة 96 من الميثاق الأممي) وسلطة تنفيذ قراراتها وتشريعاتها في مواجهة الدول حسب المادة (94) من الميثاق الأممي.

ولا تحظى محكمة العدل الدولية بإمكانية التحرّك التلقائي لمباشرة مهامها المتعلقة بحل النزاعات القانونية، حيث يبقى ذلك مشروطاً بموافقة الأطراف الدولية المعنية بهذه النزاعات، أو بمبادرة من الجمعية العامة للأمم المتحدة أو مجلس الأمن الدولي، ناهيك عن غياب آليات عملية فعَّالة تكفل تنفيذ قرارات المحكمة في مواجهة الدول وخاصة الدول الكبرى.

الواضح تماماً أنَّ مجلس الأمن الدولي أصبح يتغوَّل ويفرض ما يريد على اختصاصات المحكمة، وكنا قد لاحظنا هذا الأمر عندما وقعت أزمة لوكيربي التي تتعلق بتحديد هوية الأشخاص والجهات التي تقف وراء تفجير الطائرة التي تحمل الرحلة الجوية رقم 103 بان أم الأمريكية، بعد 38 دقيقة من إقلاعها من لندن باتجاه نيويورك.

لقد كان لتشكيل وإحداث المحكمة الجنائية الدولية خطوة مهمّة على طريق تعزيز  وتثبيت العدالة الدولية وترسيخ مبدأ المحاسبة وعدم الإفلات من العقاب، غير أنَّ إرساء وتثبيت عدالة جنائية صارمة كفيلة بتحقيق هذا الرهان، لا يزال بعيداً عن التحقق ويتطلب المزيد من الجهود المبذولة. لقد شهدت الأراضي الفلسطينية المحتلة حجماً كبيراً من الانتهاكات التي قام بها الكيان الصهيوني إلّا أنَّ ردّ فعل القضاء الدولي لم يكن في مستوى المسؤوليات الموكلة إليه في هذا المجال.

الجدير بالذكر أنَّ محكمة العدل الدولية كانت قد أصدرت في عام 2004م رأياً استشارياً واضحاً وصريحاً اعتبرت فيه أن بناء جدار الفصل العنصري في الأراضي الفلسطينية المحتلة يتناقض مع قواعد القانون الدولي والتشريعات الدولية الناظمة، حيث طالب قادة الكيان الصهيوني بالعمل على إزالته من كل الأراضي الفلسطينية، وتقديم تعويض مادي ومعنوي للمتضرّرين من بنائه، كما دعت المجتمع الدولي إلى رفض الاعتراف بالوضع غير القانوني الناجم عن بناء جدار الفصل العنصري، ومع ذلك بقي هذا الرأي طيّ الأدراج دون تنفيذ.

ما يجري في قطاع غزة من عمليات إجرامية تقوم بها قوات الاحتلال الصهيوني تندرج تحت عنوان الإبادة الجماعية (جينوسايد) باستهدافها الأطفال والنساء  والمستشفيات والمدارس ومراكز الإيواء ودور العبادة والبنى التحتية، محكّ حقيقي لقياس مدى فعالية ونجاعة المؤسسات القضائية الدولية، بعدما خاضت دولة جنوب إفريقيا الأسبوع الماضي معركة قضائية ساخنة أمام المحكمة ضد حرب الإبادة الجماعية التي يقوم بها جيش الكيان الصهيوني، وجميعنا ينتظر النتائج العملية التي يمكن أن تتخذها محكمة العدل الدولية بشأن ما جرى في قطاع غزة.