محمد أبو ناموس والأدب السّاخر كجسر للتعبير عمّا يريد
أمينة عباس
يُحسب لأكاديمية “دار الثقافة” بندواتها المتكررة التي تقيمها في المركز الثقافي العربي بـ”أبو رمانة” أنها عرَّفت الجمهور على أسماء مهمة في مجال الإبداع الفلسطيني بمختلف أنواعه، خاصة وأن قسماً كبيراً منها يعمل وينجز بصمت من دون أن يلهث ليكون تحت الأضواء على الرغم من أهمية ما أنجزه في مسيرته الإبداعية، ومن هذه الأسماء الروائي محمد أبو ناموس الذي في رصيده تسع روايات وعاشرة قيد الطباعة، وهو ثالث ثلاثة من الأدباء الفلسطينيين الذين يكتبون أدباً ساخراً، أو الذين جعلوا من السّخرية أسلوباً لهم في الكتابة بعد أميل حبيبي وعدنان عمامة، كما جاء على لسان الرّوائي حسن حميد في الندوة التي عُقدت، مؤخراً، حول تجربة أبو ناموس الروائية بحضوره وبمشاركة حميد والدكتور بلال عرابي والكاتب مروان عبد العال والناقد أحمد هلال في إدارة الندوة.
الذاكرة الفلسطينيّة
وأكد حميد في حديثه أن أبو ناموس روائي يشكل إضافة في المشهد الأدبي الفلسطيني، فهو يعرف ما هي متطلبات الفن الروائي، وقد اتّخذ السخرية معبراً وجسراً ليقول ما يريده، وهي سخرية فعالة ومحرّضة وجارحة وذلك من أجل أن تُقدّم للأجيال الطالعة خلاصة ما قرّت عليه رؤى الآباء والأجداد وبيان الأثمان الباهظة التي دفعوها وهم يتمسكون بالوطن كاملاً، لذلك يركّز في رواياته من دون استثناء على موضوع الذاكرة الفلسطينيّة والخوف عليها من أذيات الحاضر وتشققاته الكثيرة وثغراته المتعددة، مشيراً إلى رواية “اليباب” التي تشكّل جزءاً أصيلاً من مدونة السّرد الفلسطينية مثلما تشكّل جزءاً من مشروعٍ روائي تبنّاه الكاتب خلال العقود الثلاثة الماضية وقد اشتغل عليه بسرية مطلقة وبغفلة من عالم النشر وطيوفه المتعددة، فتناول في روايته الأولى موضوعات ذات نسب تاريخي جالَ في عالم الأجداد الذين عمّروا الأرض في القرى والمدن، ليلتفت في رواية أخرى إلى المجازر والمذابح التي اقترفها الإسرائيليّون بحق الفلسطينيين منذ العام 1917 وصولاً إلى نكبة 1948، ولينتبه في رواية ثالثة إلى ما يعانيه الأسرى الفلسطينيون داخل السجون والمعتقلات الإسرائيلية، وليقف في روايته “اليباب” الصادرة حديثاً في مواجهة الذاكرة الفلسطينيّة، فباتتْ كتاباً ثقيلاً بما اشتمل عليه من حوادث ووثائق وحكايات ومشاريع ومواجهات ومذابح واعتقالات وإرهاب بمختلف صوره وأشكاله من خلال الشخصية المركزيّة في الرواية “الحاجّة بلانة” وهي المرأة التي تُري القارئ الأفعال السلبيّة والإيجابيّة وما ينتج عن كلّ منها من مفارقاتٍ تتراوح ما بين الخذلان والبطولة والقنوط والأمل والهزيمة والظفر والمواجهة والارتطام، وهي برأي حميد تمثّل الذاكرة الفلسطينيّة حيث تجول في التواريخ الفلسطينيّة على نحو دائري فتذكّر بها مثلما تجول في الأمكنة التي افتكتها القوة الإسرائيلية الباطشة وفي عالم الوعي الفلسطيني العصي على المحو والتحييد والتغطية.. إنها مرآة تُري القارئ قدرة الإسرائيلي على القتل والتخريب والإرهاب وبثّ ثقافة التخويف في كل الأمكنة الفلسطينية التي وصلتْ شروره إليها، وكذلك قدرة الفلسطينيين على مواجهته ومقاومته والوقوف أمامه كأشجار السنديان، مؤكداً أنها الذاكرة المتجذرة في النفس والتاريخ والمكان والمعنى، وهي كتاب الفلسطينيين الذي يضم بين تضاعيفه بطولات الآباء والأجداد وسيَرهم وهم يقاومون المحتل الإسرائيلي منذ مئة سنة وحتى اليوم، وهي ذاكرة تتجّلى فيها روح اليقينيّة المطلقة بحقّ العودة و روح التوقد والتعافي والثبات على الثوابت من أجل إعلاء شأن شرف المقاومة والفداء.
ليلة القبض على جميلة
وبيَّن الدكتور عرابي أن أبو ناموس من الجيل الجديد المهتم بقضايا الإنسان، وكل رواياته تهتم بالقضية الفلسطينيّة وبالقضايا المعاصرة المرتبطة بحياة الناس وعلاقاتهم، وأن ما أثار انتباهه فيها أيضاً هو ذاك الاهتمام بالفقراء وميله لكل البسطاء الذين يحيطون بنا، ورأى أنه وبعد تسع روايات كتبها أصبحت تجربته الروائية ناجزة، متوقفاً عند روايته “القبض على جميلة” وهي رواية رمزيّة سياسيّة تتحدّث عن الصراع على السلطة في دولة ما من دون تحديد اسمها، حيث ترصد الرواية مجمل الصّراعات من تنافس ومؤامرات للسيطرة على الحي، موضحاً أن الكاتب برع في وصف شخصياتها، شارحاً في كل فصل من فصول الرواية صفات كل شخصيّة، وقد نالت شخصيّة حاكمة بطلة الرواية جلّ اهتمامه لأنها كانت الأكثر تأثيراً في مجرياتها، وهي التي رافقت حاكم الحي ودخلتْ في صراعها معه وانتهتْ نهاية مؤلمة، منوهاً بأنّ الكاتب منح الشخصيات أسماء تدل على أدوارها في الرواية: (حاكمة، حاكم، محكوم، صيّاح، عبد الودود).
ورأى عرابي بعد أن لخّص حكاية الرواية أن الكثير ممّا جاء فيها يذكّرنا بما فعلته “داعش” الإرهابية في المناطق التي دخلتها، منوهاً بأن السرد في الرواية اعتمد على الجمل القصيرة، وكانت تعليقات الكاتب فيها قليلة، حيث كان يقدّم الشّخصيّات ويعرّفها من خلال الحوار، وأن الرواية تناولت قضايا فرعيّة وشخصيّات ثانويّة، كما تحدّثت عن دور وسائل الإعلام في الحشد والتجييش في الصراع.
الفكاهة ضد التفاهة
وأوضح الكاتب مروان عبد العال في مشاركته المكتوبة والتي قرأها محمد أبو شريفة عضو أكاديمية “دار الثقافة” أن القارئ لرواية أبو ناموس “بساط الريح” سيدرك معنى الكوميديا السوداء التي اعتمدها الكاتب من دون استخدام تقنية إرغام القارئ على الضحك خارج النكات المستهلكة ونجح من خلالها في فضح البؤس السياسي من المحيط إلى الخليج وسياسة البؤس والقهر والظلم التي يعانيها اللاجئ بلغة النّاس العاديين، لتكون الكوميديا على الرغم من قسوة ما يعيشه الفلسطيني سرّ صموده في خلق التوازن الإنساني عنده، موضحاً أن أبو ناموس الذي يتقن سرد الفكاهة ضد التفاهة محترف في فن السخرية من خلال كتابته لنص مشتبك مع المعاناة الإنسانية وبسخرية تهزأ من واقع مأساوي وتسجل مواقف في ذاكرة الوجع الإنساني، ما يجعل نصه قريباً من العامّة ومتقاطعاً مع حوارات عائلية وسياسية واجتماعية ترصد دواخل الذات بلغة بسيطة، مبيناً أن لدى الكاتب مخزون من الموروث الشعبي الشفهي والمدوّن، لذلك ليس غريباً أن يكون في رصيده العديد من النصوص والمقالات الإبداعية يستنجد بسخريته فيها لمواجهة مرارة الهزيمة، حيث الضحك أداة للتنفيس عن الكبت والتعبير عن القهر وهو في قلب الوجع وداخل القاع الاجتماعي، يحمل سمة المخيم والمنفى والغربة والحياة العارية، فيخلق عالماً متخيّلاً تدور فيه عجلة السرد بسلاسة ليبقى أبو ناموس الدونكيشوت الذي يقاتل طواحين الهواء بسخريته اللّاذعة.
حس نقدي
وكان مدير الندوة الناقد أحمد هلال أشار في البداية إلى أن العالم الروائي لدى أبو ناموس محكيات تتواتر بزخم روائي وبلغة واضحة ومواربة كما في “ليلة القبض على جميلة”، مبيناً أن الكاتب يقدم نماذج مختلفة تمثل بأسلوبية رواياته وجهات نظر متعددة لمقاربة الحلم والممكن في واقع مترع بالتخلف والقهر حين يستبطن الروائي مضمرات بعينها تأخذ القارئ إلى تحوّلات مجتمعية بمحمولات فكرية وسياسية واجتماعية من دون أن يذهب إلى تاريخ بعينه ليترك للقارئ تلك المسافة المنشودة للإسقاط والتخطي والتجاوز، ليكتشف في روايته “بساط الريح” تلك العوالم الأخرى المستلبة والمأزومة من أمكنة يختارها الروائي ليقدمها بطريقة ساخرة مستنداً في ذلك – برأي هلال- على ثقافته المتعددة وحسّه النقدي الملتحم بأسلوبيته وتفرده كما في روايته “حراك الشهداء” القائمة على شبكة رمزيات تحاكي الشهداء وما بينها من مفارقاتٍ ينوء بها الواقع الذي يعاين فيه حياة الفلسطيني ويرفدها بملفوظ شعبي سيعني الذاكرة الحيّة بديناميتها وخصوبتها في التفكير والتعبير والسلوك.
السخرية وُلِدَت معه
وخُتمت الندوة بكلمة الروائي محمد أبو ناموس الذي لا يعدّ نفسه كاتباً لأنه لا يزال وسيبقى يكتب كهاوٍ، وقد اختار الأسلوب السّاخر بدايةً في كتاباته للمقالة السّياسيّة، وأن السخرية وُلِدَت معه فكان يكتب بهذا الأسلوب منذ أن كان طالبا في المدرسة، موضحاً أنه درس الطبّ ومارسه مدّة خمسة عشر عاماً، ثمّ تفرّغ للعمل السياسي، وخلال ثلاث سنوات أنجز تسع روايات كانت موضوعاتها من الذاكرة الفلسطينيّة ومخزونها الساخر الكبير المستمد في جزء منه من عمه الذي كان يسخر من كل شيء، وهو ما اكتسبه منه، مؤكداً أنه لم يقل كل ما يريد في كتاباته، لذلك هو مستمر في الكتابة، وأن ما يكتبه هو انعكاس للواقع وعلاج لظواهره الاجتماعية.