دراساتصحيفة البعث

ماذا عن اليوم التالي؟

طلال ياسر الزعبي

في محاولة للإيحاء بأن موضوع الانتصار على المقاومة الفلسطينية في غزة خاصة، وفي الأراضي المحتلة عامة، أمر مفروغ منه، عمدت الحكومة الصهيونية منذ بداية عدوانها الدموي على قطاع غزة المحاصر إلى إطلاق تصريحات تتحدّث فيها عن اليوم التالي بعد انتصارها هناك، ومن ستكون بيده مقاليد الأمور في القطاع، فراحت تناقش ما إذا كان عليها تسليم القطاع إلى السلطة الفلسطينية في رام الله، أم التفاوض مع مصر على إدارة القطاع، أم إعادة احتلاله بالكامل ووضعه تحت سيطرة حكومة الاحتلال مجدّداً.

هذا الأسلوب من الحديث في الحقيقة أظهر مدى العنجهية والتكبّر اللذين يسيطران على قادة الاحتلال الصهيوني ومسؤوليه، فبدلاً من التفكير بعقلانية لإيجاد حل للمشكلة الكبيرة التي وقع فيها الكيان الصهيوني برمّته على خلفية العدوان المستمرّ على قطاع غزة منذ أكثر من ثلاثة أشهر ونصف الشهر، ذهب جميع أعضاء هذه الحكومة للتفكير في حجم الكعكة التي سيحصلون عليها هم أو حزبهم بعد الانتصار المزعوم في غزة، ولم يفكّر أحد منهم في فرضية الهزيمة في هذا العدوان.

ورغم أن الكيان الصهيوني أمعن في قتل النساء والأطفال وتشريد السكان وتدمير البيوت فوق ساكنيها، وتجويع الفلسطينيين وإذلالهم، بما يحقق شروط الإبادة الجماعية بالكامل، إلا أنه حتى الآن لم يتمكّن من الادّعاء بأنه تمكّن من تثبيت سيطرته على أيّ مربّع في القطاع المحاصر، في ظل استخدامه ترسانة هائلة من القنابل والصواريخ والآليات وحتى المرتزقة الذين قاتلوا في صفوفه ضد المقاومين في غزة.

الصدمة

هذا الواقع الذي بلغه الكيان، بالتوازي مع إمكانية توسّع رقعة الحرب بعد دخول القوات المسلحة اليمنية والمقاومتين العراقية واللبنانية على خط المواجهة بشكل مباشر، جعله يفكّر بالحال الذي يجب أن يكون في اليوم التالي، ولكن ليس بالعقلية السابقة، فقد كان مفعول مئات القتلى وآلاف الجرحى من جنود الاحتلال في غزة، كمفعول الماء البارد الذي أحبط النشوة التي شعر بها جيشه بعد الإبادة الجماعية التي ارتكبها في غزة، حيث بدا واضحاً أن الحديث صار يدور في الداخل الصهيوني، وفي الكابينيت الصهيوني المصغّر خاصة، حول من يتحمّل مسؤولية الفشل في تحقيق أهداف العدوان التي سقطت الواحد تلو الآخر بفعل المقاومة الأسطورية التي أبدتها حركات المقاومة هناك، ومن هنا بدأت الحركات الارتدادية لهذا الزلزال العنيف تظهر في جميع مفاصل هذا الكيان.

 

هروب إلى الأمام

ولا شكّ أن رئيس الحكومة الصهيونية يحاول منذ البداية الهروب إلى الأمام من المصير الذي ينتظره هو وحكومته، وبالتالي كان يرفض دائماً وقف إطلاق النار لأنه يشكّل فرصة حقيقية للبحث في جذور المشكلة على مستوى الشارع الصهيوني من جهة، وعلى مستوى العالم من جهة ثانية، حيث أطلقت عواصم عالمية عدّة دعوات إلى حل القضية الفلسطينية من أساسها والاعتراف بدولة فلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني بالكامل كوسيلة للخلاص من المشكلة، وهذا يتنافى طبعاً مع الأساس الذي قام عليه الكيان الصهيوني، وهو طرد أصحاب فلسطين الأصليين من أرضهم والحلول محلّهم.

 

رأي الشارع الغربي

فالرأي العام العالمي الذي حاولت الحكومة الصهيونية الاستفادة منه في بداية هذا العدوان بتصوير الكيان على أنه حمل وديع يحاول الدفاع عن نفسه أمام “الوحوش” البشرية في غزة بدأ ينقلب عليها، حيث انطلقت المظاهرات المؤيّدة للفلسطينيين في أغلب المدن والعواصم العالمية، وتجاوزت ذلك بتأييدها لمطالب الفلسطينيين كافة، حتى بزوال الكيان وعودة الصهاينة إلى البلدان التي جاؤوا منها لاستيطان فلسطين، ولم يعُد الحديث في هذه التظاهرات عن حل الدولتين، بل عن دولة واحدة هي فلسطين.

وقال رئيس تحالف “أَوقِفوا الحرب” البريطاني، كريس ناينهام: إنّ المسيرة الحاشدة في برمنغهام “قد تكون الأكبر على الإطلاق”، مطالباً بـ”اتساع الأصوات المطالبة بإيقاف العدوان على غزّة، ليس في البرلمان فحسب، لكن أيضاً في لندن ومختلف المدن البريطانية”.

أما في مدينة في لوس أنجلوس في الولايات المتحدة الأميركية، فنُظّمت تظاهرة قادها الأطفال، للتضامن مع فلسطين، والمطالبة بوقف إطلاق النار في غزة.

وفي أول مسيرة أوروبية عابرة للحدود، انطلقت مسيرة تضم المئات من الداعمين للقضية الفلسطينية، من باريس متجهةً إلى بروكسل، لإدانة المجازر التي ترتكبها قوات الاحتلال ضد المدنيين في قطاع غزة، منذ السابع من تشرين الأول 2023.

وجابت المسيرة شوارع باريس مدة ساعتين من السير مشياً على الأقدام، ورفع المتظاهرون لافتاتٍ وأعلاماً، وكتبوا عباراتٍ مندّدة بجرائم الاحتلال، كما وجّهوا دعواتٍ إلى استخدام الأدوات القانونية لإدانة “إسرائيل” قضائياً.

وقد كشف المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان تعمّد الاحتلال الدفع إلى التهجير القسري بحق العائلات الفلسطينية، وإجبارها على النزوح بقوة السلاح من منازلها ومراكز الإيواء في مدينة غزّة، بالتزامن مع تصعيده سياسة التجويع ومنع الإمدادات الإنسانية عن المدينة.

 

خسائر اقتصادية

وعلى الجبهة اللبنانية، ورغم سياسة التكتم الشديد التي يتبعها كيان الاحتلال فيما يخص خسائره البشرية هناك، إلا أن الخسائر الاقتصادية لا تنفك تتكشف يومياً في الإعلام الإسرائيلي، وآخرها الحديث عن إغلاق آلاف الأعمال التجارية في شمال الكيان، حيث أكّدت قناة “كان” الإسرائيلية أنّ آلاف الأعمال التجارية في المستوطنات الشمالية في كيان الاحتلال أُغلقت وتوقفت على خلفية المواجهة القائمة والتصعيد المُستمر بين حزب الله و”جيش” الاحتلال الإسرائيلي.

وتحدّثت صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية، بشأن الخسائر الزراعية التي يتكبّدها الاحتلال الإسرائيلي مع تواصل الحرب على الجبهة الشمالية، مؤكدة أن “الخوف من نيران حزب الله يتسبّب بأضرارٍ مالية مضاعفة”.

وأشارت إلى أنّ المزارعين الإسرائيليين في الشمال “يشتكون من صعوبة الوصول للبساتين على طول الحدود”، موضحةً أنّ خسارتهم ذات شقين، هما الفاكهة التي لم يتم حصادها الآن، والأضرار للموسم المقبل، كاشفةً أنّ كل هذا يتفاقم “بينما لم يتحدث إليهم أحد من دائرة ضريبة الأملاك حتى الآن بشأن خطة تعويض”.

وكان الوزير السابق في حكومة الاحتلال الإسرائيلي، مئير شطريت، قد قال إنّه إذا وقعت حربٌ مع لبنان، فإنّ صواريخ حزب الله “لن تصل إلى كريات شمونة فقط، بل ستطول تل أبيب وديمونا، وأيّ مكان في العمق الإسرائيلي”.

ولا تقتصر الخسائر الصهيونية على الجبهة اللبنانية، بل تعدّتها إلى الخسائر الهائلة التي تلقّتها “إسرائيل” بعد منع اليمن السفن الصهيونية أو السفن المتجهة إلى الأراضي المحتلة من العبور عبر باب المندب، حيث تحاول واشنطن ولندن التخفيف من الآثار الاقتصادية لهذا الإجراء عبر عدوانهما على اليمن، ولكن الوضع يزداد سوءاً بعد كل ذلك.

 

الرأي العام الرسمي

لم يقتصر تغيّر الرأي العام العالمي على الشعوب، بل تجاوز ذلك إلى بعض الحكومات الغربية التي أعلنت رفضها العدوان على الشعب الفلسطيني ودعمها المقاومة الفلسطينية في مواجهة جيش الاحتلال الصهيوني، حيث أعلن رئيس الوزراء الإسباني، بيدرو سانشيز، دعمه لعشرات الآلاف من الأشخاص الذين تظاهروا تأييداً لفلسطين في عدة مدنٍ إسبانية.

وقال سانشيز، خلال مؤتمر الحزب الاشتراكي، المنعقد في مدينة غاليسيا، شمالي غربي البلاد: “نحن أيضاً معهم جميعاً”، في إشارةٍ إلى التظاهرات التي خرجت في العديد من الشوارع والقرى في إسبانيا، للدعوة إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية، والمطالبة بوقف الحرب في الشرق الأوسط.

ونظّمت تظاهراتٌ ضخمة، دعت إليها منصة “شبكة” للتضامن، ضد احتلال فلسطين، تحت شعار “فلنوقف الإبادة في فلسطين”، وذلك في مدنٍ إسبانية كبرى بينها العاصمة مدريد، التي شهدت أكبر تظاهرةٍ شارك فيها قرابة 25 ألف شخص، حسب الحكومة.

وفي الوقت ذاته، قال وزير الخارجية الإيطالية، أنطونيو تاجاني: إنّ بلاده “أوقفت إرسال الأسلحة إلى “إسرائيل” في السابع من تشرين الأول 2023، ولم ترسل أي نوع من الأسلحة إلى تل أبيب منذ ذلك الوقت”.

 

رأي صهيوني

وفي الأوساط السياسية الصهيونية، أكّد رئيس مجلس “الأمن القومي” الإسرائيلي السابق، غيورا آيلند: إنه لا يرى عودة الأسرى الإسرائيليين “إلا إذا تخلّت إسرائيل عن أهداف الحرب”.

وفي حديث إلى إذاعة “ريشيت بيت” الإسرائيلية، أقرّ آيلاند بصعوبة الانتصار في الحرب، “طالما في غزة أسلحة وذخيرة، وطالما بقي السنوار، وطالما يوجد ما يكفي من الشباب المستعدين للقتال حتى الموت”.

وأوضح أنّ أمام “إسرائيل” أمرين: الأول هو ألا يعود الأسرى، والثاني هو أن تعلن، رسمياً وعملياً، التخلي عن هدف الحرب المتمثّل بالقضاء على حماس، “مع كل ما يترتّب على ذلك من تداعيات”.

وعلى صعيد الشارع الصهيوني لا تزال المظاهرات الحاشدة التي ينظّمها أهالي الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة، تقضّ مضاجع حكومة نتنياهو، وخاصة أنها تنطلق من أمام منزله في قيسارية، مطالبة بإعادة الأسرى، وإنجاز صفقة تبادل “فوراً” مع المقاومة الفلسطينية، ومؤكدةً أنّها “مهمة ملحّة وواضحة” والطريقة الوحيدة التي ستتيح إخراج الأسرى.

وسبق أن شدّد ضابط الاحتياط الإسرائيلي السابق، إسحق بريك، على أنّ إعادة كل الأسرى الإسرائيليين ممكنة “عبر الوصول إلى اتفاقٍ مع حماس”، وإن كان على حساب وقف الأعمال القتالية في غزّة، حتى لا تخرج “إسرائيل” خالية الوفاض من كل الأهداف التي حدّدتها.

وفي المحصلة، يبدو أن اليوم التالي لوقف العدوان سيحمل مفاجآتٍ كثيرة ليس على صعيد الحكومة الصهيونية التي ستنهار على الأرض، بفعل خسارة الحرب، مع كل ما تحمله هذه الحكومة من تناقضات اجتمعت على خلفية الحلم بنصر على المقاومة، بل على المستوى العالمي الذي سيجد نفسه مضطراً للتعامل مع معادلات القوة الجديدة التي ظهرت في المنطقة، حيث استطاع محور المقاومة هزيمة الكيان على الأرض، وهزيمة الغرب الجماعي الذي يقف خلفه، ووضع كل قوّته لإخضاع هذه المقاومة والقضاء عليها، وانتصار المحور هنا هو الإسفين الأكبر في نعش النظام العالمي القائم.