قراءة في رواية “حجُّ الفِجار” للكاتب الموريتاني موسى ولد ابنو
فيصل خرتش
في هذه الرواية “حجُّ الفِجار” يحدثنا موسى ولد ابنو عن موسم الحج، ففي فجر اليوم الأوّل من ذي القعدة سنة ثلاث وخمسين بعد عام الفيل، خرج مالك سادن جهار من المعبد، فرأى الناس، وقد سال بهم السهل الفسيح، جاؤوا راكبين كلّ صعب وذلول ومترجلين، وافدين على موسم عكاظ، بدؤوا بنصب المضارب، وبناء الحجرات والخيام وقباب الأدم الحمراء، الفرسان منهم يخرجون بخيلهم، يلعبون بأسلحتهم عليها، يرمون بالحراب إلى الهواء ويبادرون إليها لقفاً بأيديهم، يرمون بعضهم بالسيوف في الهواء فيتلقفونها قبضاً كأنها لم تفارق أيديهم.
كانت أسرة آل عوف، سدنة جهار، قد تهيأت لهذا اليوم الأوّل من أيام سوق عكاظ، توزعت على مجموعات لتسهيل مهمّة استقبال العباد والإشراف على إداء مناسكهم، وقد بدؤوا يتقاطرون على المعبد، يدورون فيها حول الصنم ثم يذبحون قرابينهم، تقارب السَّدَنَةُ ويتحدون الشمس، يسعدون بخدمة المعبد، يكنسون الساحة بأغصان النخيل وينضحون الماء على أرضيته، والنسور تمشي لاهبة مشي العذارى عليهن الجلاليب، تحط فوق الأنصاب، تنهش اللحوم المُشرَّقة، وهنا ضربت قبّة الأدم الحمراء التي وضعت للحكم وسط ساحة السوق، فتأتيه الشعراء تعرض عليه أشعارها ليحكم بينها، فمن أشاد به تألق نجمه ومن أزرى به خمل ذكره.
وما إنّ بدأت الشمس تميل حتى قام البيع، واجتمع الألوف، امتزجت روائح الطيب بروائح الأبزار والغبار والعرق، وبالأصوات من كلّ اللغات، إنها جلبة الأشياء والكائنات في أصيل عكاظ ـ سرو اليمن يعرضون تجارتهم، فعمت السوق روائح جبال اليمن المنعشة، وألوان منتجاتها الزاهية.
بعد عشرين يوماً في عكاظ، انصرف أهل الموسم إلى مجنة، فأقاموا بها عشراً، جاؤوا إلى مجنة حجاجاً محرمين يسوقون هديهم المًقلّد والمُشّعّر، وما إن غابت الشمس حتى خرج أهل الموسم يتراؤون هلال ذي الحجة، ولمّا أصبحوا جمعوا النعم وقوضوا القباب، وانصرفوا إلى ذي المجاز، قرب عرفة، فأقاموا فيه ثماني ليال يشهرون أحلافهم وأسواقهم قائمة، والناس على مداعيهم وراياتهم منحازون في المنازل، ينتظرون يوم التّروية يوم الثامن من ذي الحجة، وفيه يتروون من الماء بذي المجاز قبل الوقوف بعرفة، ويكون يوم التروية آخر أسواقهم، فلا بيع بعده، ولا تجارة حتى تنقضي أيام منى.
في صباح اليوم الثامن قوضوا القباب وجمعوا النعم وحزموا البضاعة والأمتعة، تجردوا من ثيابهم واغتسلوا، وأخذوا من أظفارهم وشواربهم واستحدُّوا، وتطيبوا لإحرامهم، ولبسوا للحريم غير المخيط، لبسوا الإزار والرداء وانتعلوا النعال، وأهلّوا بالحج، اعتزلوا النساء وحرموا إزالة التفث وقتل الصيد، ووقفت كلّ قبيلة عند صنمها وصلّوا وتلبّوا: “لبيك اللهم لبيك.. لبيك أحبنا بما لديك.. فنحن عبادك قد صرنا إليك”.
انصرفوا من ذي المجاز إلى وادي النار بين المزدلفة ومنى، وتكامل جميع الناس بعرفات قبل زوال التاسع من ذي الحجة، فضربوا قبّابهم وخيامهم في الميدان الكبير، وملؤواجبل الرحمة، حتى لم يبق به موضع لقدم، فكسي أكداساً من الناس، وقد كشف منهم الرؤوس، وعريت منهم الأقدام وارتدوا ملابس الإحرام، وبما أنّ إبليس كان له طرف من المعرفة، فإنّ الملائكة لم تطرده من عرفة وتركوه فيها.
دفعوا الحجاج مغيرين على الأقدام وعلى الرواحل تحدوهم سحب الغبار، أشرفوا على منى ثم خرجوا إلى الوادي الذي ملئ بقباب الأدم الحمراء المتسع ناحية جبل ثبير، دفع بهم، وسلم لواء الحج إلى كرب بن صفوان الذي دفع بهم إلى الجمرة الأولى، جمرة الصنم الأكبر عند العقبة، ثم دعا بني غوث للرمي، ومن بعدهم سائر الحجيج، فتدفقوا على الصنم يرمونه مكبرين “أنت أكبر! أنت أكبر!”.. ثم انصرفوا إلى مناحرهم يسوقون هديهم، فمنهم من قصد الجمرات، ومنهم من قصد الأصنام، وما إن أُذن بدء النحر حتى تحطم النساك بهديهم على القبقب، وإذا بصوت يقول: “كلوا من لحم هديكم وتصدقوا بما فضل على الفقراء والسباع والكواسر”، ولما فرغوا من النحر طفقوا يحلّقون رؤوسهم، فحلّقت كلّ قبيلة عند صنمها بمنى، ثم انصرفوا لأداء طواف الإفاضة، انتشروا في الأبطح يميناً وشمالاً وما لبثوا أن تدفقوا في بطن مكة، قصدوا المسجد الحرام، وقد خلعوا ثيابهم ولبسوا ثياب الإحرام، أصبحوا أنقياء متحررين من ذنوبهم وآثامهم، بعيدين عن الأدران.
آخر أيام التشريق، وفيه يجب على كلّ الحجيج مغادرة منى قبل المغيب، وقصد لبيد دار عثمان، فسمعه يقول كلاماً رائعاً خلّاباً، ظل طويلاً بين قومة وتلاوة، يتبعها ركوع وجلوس في تكبير، ثم سلّم عن يمينه وعن شماله، ورحّب به، وقال: “هذا دين الله ، ودين ملائكته ودين رسله ، بعث به محمّد رسولاً إلى العباد، إني أدعوك إلى هذا الدين أن توحد الله وتعبده وتخلع ما كنت تعبد أنت وآباؤك من دونه من الحجارة والأوثان ” .
المؤلف في سطور
موسى ولد ابنو من مواليد موريتانيا عام 1956، حاصل على دكتوراه فلسفة من جامعة السوربون، وأستاذ فلسفة في جامعة نواكشوط، صدر له “مدينة الرياح” و”الحبّ المستحيل” وهذه الرواية الصادرة عن “دار الآداب” في بيروت عام 2015.