غزوان الزركلي: الموسيقا الإسبانية هي الأقرب إلى موسيقانا
ملده شويكاني
لم تكن المقطوعة الشهيرة “آستورية” من مقام صول مينور، التي ألّفها المؤلف الإسباني “إسحق ألبينيز” معزوفة على الغيتار، إنما على مدى أبعاد أصوات البيانو بعزف الدكتور غزوان الزركلي بأدائه المذهل في الأمسية الرائعة والمختلفة التي قدمها في دار الأوبرا أثناء زيارته الوطن، إذ اختار مقطوعات لمؤلفين من إسبانيا وأمريكا اللاتينية، مبتعداً عن أنماط السوناتا والسيمفونيات الصعبة لعباقرة الموسيقا الكلاسيكية لـ”بيتهوفن” و”شوبان” و”باخ” وغيرهم، فمن هذه المقطوعات الصعبة إلى رحلة في أجواء موسيقا دول أمريكا اللاتينية من الأرجنتين والبرازيل والمكسيك وكوبا إلى مدن إسبانيا المتأثرة بروح العرب، وانعكس ذلك في موسيقاها، فهيمنت الرومانسية حيناً مع الغنائية اللحنية الحيوية، لتعود إلى أجواء حزينة حيناً آخر مندمجة بزخم موسيقي ووقفات حادة، وتميزت أغلب المقطوعات بالقفلة المدهشة.
وفي هذه الأمسية فاجأ الزركلي جمهوره ومحبيه بهذه المقطوعات التي انسابت إلى الروح والقلب مباشرة وحملت مسحات شرقية، وقد نوّع بالبرنامج بين أنماط الرقصات والمقطوعات والمقدمة الموسيقية والأغنيات، من مقامات بدرجات مختلفة لمقام المينور والماجور وكرد لا وكرد مي.
التانغو الحزين
فبدأ من الأرجنتين والمؤلف “آستور بيازولا” الذي ارتبط بالتانغو بالمقطوعة الحزينة التي حققت شهرة عالمية كبيرة “وداعاً يا جدي” من مقام لامينور- تانغو رابسوري- وقد كتبها وهو بعيد عن الوطن بروح حزينة مثقلة بالحنين والدموع على فقد والده الذي كان جداً، فتخللتها وقفات حادة وألحان حزينة وتدرجات بالصوت المنخفض حيناً، ثم العودة إلى السرعة وتصاعد الصوت، بالتناوب بين الصوتين في مواضع.
الموسيقا الرومانسية
ومنها إلى المكسيك والموسيقا الرومانسية بألحان انسيابية رقيقة، إذ عزف ثلاث مقطوعات للمؤلف “مانويل بونس”، الأولى مقطوعة قصيدة “حب” من مقام مي مينور، والثانية مقطوعة فاصل موسيقي من مقام مي مينور أيضاً، وبدت الألحان مختلفة في مقطوعته الثالثة رقصة الفاقوت من مقام ب –ماجور، والتي بُنيت بحيوية بجمل متتابعة.
الصوت الضخم
واختار الزركلي من البرازيل ثلاث مقطوعات للمؤلف البرازيلي “أوسكار لورنيزو فرنانديز”، الأولى مقدمة موسيقية مقام مي مينور، استخدم فيها الصوت الضخم للبيانو مع الصوت الرقيق، ثم أغنية من المقام ذاته، إلى رقصة بألحان حيوية براقة وسريعة من مقام لا ماجور، وتميزت الرقصة الكوبية مقام لا ماجور لمؤلفها إغناسيو سرفانتس كافانا بألحانها الراقصة.
قريبة من الموسيقا العربية
وخصص القسم الثاني من الأمسية لمقطوعات من إسبانيا وبدت قريبة من الموسيقا العربية، فاختار مقطوعات لأعظم المؤلفين الإسبانيين، مبتدئاً بـ”إنريكي غرانادوس” بمقطوعة شكوى مقام فا مينور، واتسمت بلحن حزين بالصوت الضخم، ومن ثم عودة إلى اللحن الهادئ، وتخللتها مواضع قوية وفواصل سريعة بدرجات صوتية مختلفة.
مدن إسبانيا
كما عزف للمؤلف الشهير “إسحق ألبينيز” مقطوعات عدة استمدها من مدن إسبانيا، من أشهرها مقطوعة قرطبة مقام ره مينور، التي تخللتها انتقالات موسيقية ووظّفت سينمائياً، تلتها مقطوعة ملقة مقام كرد لا، ومدينة الباب مقام ره ب ماجورالتي تكررت فيها الحركة والجملة الموسيقية، ومقطوعة آستورية الشهيرة نسبة إلى منطقة في شمال غرب إسبانيا.
من الباليه
وازدادت المقطوعات صعوبة مع المؤلف “مانويل دي فايا” المتصفة بالعمق، ويعد من أعظم المؤلفين الإسبانيين، فاختار الزركلي مقطوعات عدة، منها ذكرى وعلى قبر ديبوسي، كما اختار له مقطوعتين مأخوذتين من نمط الباليه، الأولى رقصة الطحان من مقام كرد مي من باليه القبعة المثلثة، فبدأت بطيئة لتزداد سرعة وحيوية، لتأت رقصة طقوس النار المأخوذة من باليه الحبّ المسحور من مقام لا مينور أكثر سرعة وصعوبة لاسيما بالقفلة بتفاعل كبير من الجمهور.
هدية للجمهور
ولرغبة الجمهور والتصفيق الحار قدم الزركلي من مؤلفاته فالس من سورية، المقطوعة الرائعة المستمدة من روح سورية ليختتم بها هذه الأمسية المختلفة.
نوع من التوازن
وقبل الأمسية تحدثت “البعث” مع الزركلي الذي يعزف لعباقرة الموسيقا المقطوعات الصعبة وهو الأقدر على تقديمها، وهذا ما تناهى إليه من آراء البعض، فأراد أن يقدم برنامجاً جديداً يكون قريباً من الجمهور في هذه الأمسية كنوع من التوازن، ولا سيما أن موسيقا إسبانيا وأمريكا اللاتينية قريبة من روحنا، فسألته عن التقاطعات بينهما؟ فعقب بأن التقاطعات موجودة من حيث اللحنية العالية الشرقية، ومن المعروف أن الموسيقا الإسبانية الأقرب إلى الموسيقا العربية من الدول التي تقع على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وأقرب حتى من الموسيقا اليونانية، كذلك الهجرات التي تتالت من إسبانيا إلى أمريكا اللاتينية نقلت إليها التقاليد والموسيقا الإسبانية باستثناء الفلامنكو.
مقطوعات وليست رقصات
أما عن برنامج الأمسية، فنوّه الزركلي بأن مقطوعات الرقص ليست راقصة، إنما هي مقطوعات موسيقية سُميت برقصة، مثل رقصة النار التي تعد مشهداً من باليه، وكذلك “آستور بيازولا” الذي ألّف العديد من مقطوعات تانغو الصالون- الكلاسيكية وليست الراقصة، فالرقصة الوحيدة في الأمسية هي الرقصة الكوبية.