رسائل توماس بالك .. الثلاث!
حسن حميد
ها هي بين يديَّ ثلاث رسائل وصلتني خلال الشهور الثلاثة الماضيات من الكاتب الألماني توماس بالك، وهو كاتب مسرحي، وشاعر، وصاحب برنامج ثقافي في إحدى القنوات الألمانية، وقربها ثلاث مسودات لثلاث رسائل هي إجاباتي عن أسئلته التي أراد من خلالها معرفة ما يجري في بلادنا الفلسطينية منذ 7 تشرين الأول 2023. لقد وصلتني رسالته الأولى بعد مرور أربعين يوماً من الحرب الإسرائيلية المشنونة على قطاع غزة، والضفة الفلسطينية، والتي جعلت الحياة الفلسطينية في قطاع غزة ظروفاً من السواد والرّعب والإخافة والتشريد والموت والخراب والتنقّل من مكان إلى آخر، من دون أن يعرف الصغير أو الكبير طعم الأمان، وهي نفسها الحرب المشنونة على الضفة الفلسطينية التي جعلت حياة الفلسطينيين قلقاً وانتظاراً لخراب جديد، وخوفٍ جديد، وزهقً لأرواح جديدة، واعتقالات جديدة!
لقد سألني توماس أسئلة عدة في رسالته الأولى، وبصيغة من يودّ الاطمئنان على حالنا بعيداً عن أخبار الإعلام الرسمية والتواصل الاجتماعي، فقلت له مصارحاً: إنني ما عدت أؤمن بكلّ ما جاء في الآداب والفنون والقوانين الغربية، لأنها هي شيء وسلوكيات الغرب (من خلال قادته) شيء آخر.
وقد أوقفت إجابتي الطويلة كلّها في رسالتي الأولى الموجهة إليه للرد على سؤاله، وهو رجل الإعلام الذي يريد معرفة ما لا يعرفه الاخرون، فقلت له إنّ ما يقوم به الإسرائيليون هو عمل غير مسبوق في تاريخ صراعهم معنا، نحن أهل فلسطين، من حيث التوحش والجنون وسفك الدماء، وضرب أخلاقيات الدنيا كلها بعرض الحائط، وإنّ صبر الفلسطينيين في هذه الأيام غير مسبوق، وشجاعتهم البادية غير مسبوقة أيضاً، وهم يواجهون قوة الإسرائيليين المدعّمة بقوة الغرب.
في رسالته الثانية، عاتبني على انفعالي الشديد، وغضبي العاصف، وقال لي بهدوء: أتظنّ أنّ الغرب هو المفجّر لقوة الإسرائيليين، وهو من يعمل على تظهير بطشهم وبربريتهم وشهوتهم العارمة لسفك الدماء، وخراب القرى والمدن، ودك الأمن والطمأنينة؟ أبداً يا صديقي!! الإسرائيليون هذه هي طباعهم، وهذه هي ثقافتهم التي عاشوها بيننا وبينكم؛ إنهم لا يعيشون، ولا يعرفون لذة العيش، إلا بقهر الآخر، أيّاً كان، وجعله قلقاً وخائفاً منهم على كلّ شيء، لأنهم يعرفون أنّ الآخر ينوف عليهم في كلّ شيء، في التاريخ، والجغرافية، والآداب والفنون، والعادات والتقاليد والعمران؛ هم من دون طباعهم الشريرة لا شيء، لا قيمة لهم، وهم من دون إلحاحهم، وتذللهم للوصول إلى غاياتهم، لا شيء أيضاً؛ هم أصحاب نفوذ في العالم لأنهم يعدّون كلّ شيء يمتلكه الاخر هو قابل للبيع والشراء، وهم قادرون على شرائه، أعني شراء المراكز والذمم والنفوذ؛ وقد ظهر ذلك جلياً تماماً بعد الحرب العالمية الثانية، لقد اشتروا كلّ شيء امتلكناه من أجل يقيموا كيانيتهم في بلادكم، ويقول لي توماس بالك: أنت تعتب عليَّ لأنّ حكام الغرب يُهرعون إلى الإسرائيليين للاطمئنان على أحوالهم، وسؤالهم إن كانوا بحاجة لشيء ما يساعدهم، ويأخذ بيدهم لإبادة الشعب الفلسطينيين، وتطهير أرضهم عرقياً كي تصير البلاد كلّها يهودية! وأنا أقول لك، وبالصراحة التي تعرفها عني: حكامنا يخافون منهم، أعني يخافون من دهائهم ومؤامراتهم ونفوذهم داخل البلدان الغربية، لذلك هم هرعوا إليهم، واعلم أن كلّ ما قالوه لهم كذب.. إنهم يكذبون عليهم وعلى أنفسهم وباسم شعوبهم الغربية؛ وانتظرهم، يا صديقي، إلى حين يتركون مناصبهم، وانظر إلى أقوالهم الجديدة المختلفة تماماً، واقرأ مذكراتهم التي سترى فيها العجب العجاب؛ ويذكر لي توماس بالك أمثلة كثيرة عن المسؤولين الغربيين، ويستلّ مقاطع من كتاباتهم في مذكراتهم ويومياتهم، ليؤكد لي صحة ما ذهب اليه، وقد قلت له في ردي على رسالته الثانية، وبعيداً عن توصيف سياسات حكامهم الغربيين: إننا شعب، يا توماس، لنا حضارتنا وعمراننا، ولسنا حقلاً استعمارياً أخيراً، لكي يجرّب الإسرائيليون فنون الإبادة الجماعية، والتطهير العرقي، والتمييز العنصري عبر مرّة أخيرة في هذا الكون البشري؛ نحن، يا توماس، نواجه الإسرائيليين منذ 76 سنة بالحجة، والقانون، والتاريخ، والمعطيات الدينية، والعمران فوق هذه الجغرافية الفلسطينية المشبعة بالوطنية، أو قل بالعناد الوطني، وبأحلامنا الجليلة لمستقبل لا روائح للبارود فيه (نريد أن نشم روائح بيارات البرتقال)، ولا طائرات تملأ الفضاء (نريد أن نرى نجوم السماء، ورفرفات الطّيور وتحليقاتها البديعة)، ولا مشاهد لقتل الصغار والكبار (لقد امتلأت ضواحي القرى والمدن والمخيّمات بالمقابر)، ولا إخافة بتهديد قادم (نريد أن نزرع القمح والورد والنعناع، ونسمع الموسيقى، أيّ موسيقى للريح أو الأنهار)!
كيف يا توماس بالك، وأنت الشاعر، ترضى لشعبنا أن يعيش مقيداً بالخوف والبطش الإسرائيليين. صغارنا، يا توماس، يقولون جهراً للعالم: إننا لن نكبر لأنّ الإسرائيلي سيقتلنا صغاراً، وصغارنا الجرحى في مشافي غزة والضفة الفلسطينية يسألون من هم حولهم: أهذا الذي يجري “بتر للأعضاء، وقلع للعيون، وبقر لبطون النساء الحوامل، ودمار للبيوت” هو حلم أم حقيقة، واقع أم خيال! توماس، كلّ كذب حكام الغرب صار حقائق بسبب إلحاح الإسرائيليين لكي يوفوا بما وعدوهم. بلادك، يا توماس بالك، أرسلت مؤخراً، وتحت إلحاح الإسرائيليين، 50000 قنبلة للدبابات الإسرائيلية؛ أتدري ماذا ستفعل 50000 ألف قنبلة؟ ستقتلع 50000 ألف بيت فلسطيني، وستقتل 50000 ألف فلسطيني، وستشرد 50000 فلسطيني، وستطال 50000 حلم فلسطيني.
وكتب إليّ توماس رسالته الثالثة، وقال فيها سطراً ذهبياً واحداً يلخص كلّ معانيها: أنتم، يا صديقي، وقبل ألف سنة هزمتم حملات الفرنجة، ورسمتم لجنودها دروب عودتهم إلى بلادهم، فجاؤوا يحدثوننا يومذاك عن صبركم وشجاعتكم؛ وأنتم، قبل 200 سنة، هزمتم جيوش نابليون بونابرت، ورددتموها إلى أرض مصر، وحين عادوا إلى فرنسا حدّثونا عن صبركم وشجاعتكم؛ وأنتم اليوم، وهذه قناعتي، قادرون بصبركم وشجاعتكم نفسيهما على هزيمة الإسرائيليين وهزيمة حكامنا أيضاً.
زممتُ شفتيّ، على الرغم من مرارة قلبي، وكتبت سطراً واحداً لـ توماس بالك، قلتُ له بعد التحية: أيّها الـ توماس العزيز، الشعوب تندثر حين تريد الاندثار! والشعوب تنتصر حين تريد الانتصار، ونحن مرّت السنوات ثقيلات الظلم، ولم تندثر، لأننا شعب يعرف طعوم الكرامة.. ويريد الانتصار.
Hasanhamid55@yahoo.com