أنا والبرْد..
عبد الكريم النّاعم
لستُ واثقاً من أنّني لم أتعرّض لهذا الموضوع من قَبْل، ومع ذلك، فهو بالنسبة إليّ أمر يتجدّد؛ هذا ونحن ما نزال في “الحَنْجلة”، ولمّا يبدأ الرقص.
بعض الأشخاص يُحبّون فصل الشتاء، ولا يشعرون ببرْده، ويخرجون إلى الشارع بقميص نصف كمّ، في وقت يكون فيه أمثالي يُوحْوحون، وهذا ليس بسبب الشيخوخة التي أنا فيها، بل في تكويني منذ أن وعيتُ الحياة، فكيف وقد صار ينطبق عليّ قولُ القائل:
إذا جاء الشتاء فأَدْفئونــي
فإنّ الشيخَ يُهْرِمُهُ الشتاءُ
في أيام العزّ التي كان فيها سعر ليتر المازوت في حدود ليرتين سوريّتين، وكان باستطاعة “الكحيانين”، أمثالي، شراءه، كنتُ أفاخر بأنّني أوّل مَن يُشعل المدفأة في حمص. الآن، ثمن ليتر المازوت أكثر من ثلاثة عشر ألف ليرة، وهذا يحتاج إلى مال قارون، فلجأتُ لِما قد يُرمّم، إلى أعظم اختراع عرفتْه البشريّة، هذا بحسب رؤيتي الحالية، وهو كيس الماء، أعبّئه بالماء الغالي، وأنيّمه قربي في الفراش، فأشعر بشيء من الدفء المؤقّت للجسد؛ أمّا دفء الروح فذلك شيء آخر.
في تلك القرية البعيدة في ذاكرة الطفولة، كان لدينا جار، قليل “مْروّة”، وهو “عاطولي”، وعلى درجة كبيرة من الفقر. كان يستيقظ في أيام الصيف باكراً، ويجمع عيدان الحطب، أو قصب الذرة، أو أيّ شيء ممّا يمكن إشعاله، ويوقِد تحته ويجلس يتدفّأ. كانت أمي – رحم الله أمواتكم، ورحمها – تناديني باسمه، حين أقترب منها، وهي تطبخ أو تخبز مساء، في الأيام التي أراها باردة، فأقترب من الموقدة لأشعر بالدّفء.
والدي – رحمه الله – لم يكن هكذا! ذات مساء شتويّ بارد، مرّ رفّ من طيور البطّ العابرة، فأطلق النّار من بندقيّته عليه، فوقع طير في نهر القرية، فخلع ثيابه بسرعة، وقذف بجسده العاري في الماء البارد، وأحضر ما اصطاد.
يبدو أنّ ثمّة تكويناً فيزيولوجيّاً، ما، هو الذي يجعل زيداً شديد التأثر، وعمرواً على عكسه، وذلك تكوين لا يمكن تغييره لا بالرياضة، ولا بغيرها، فهو عصيّ على الترويض،
حدّثني أحد البدو أنّ جدّه عمّر حتى التسعين، لم يشكُ من مرض، والسبب في رأيه أنّه كان في أربعينيّة الشتاء يرتدي فروة الصوف، كما أنّه يرتديها في أربعينيّة الصيف، قائلاً: “الذي يمنع البرْد يمنع الحرّ”.
على مشارف ستّينيات القرن الماضي، كنتُ أعلّم في بلدة خان شيخون، وقد عرف زملائي عنّي مسألة التحسّس من البرْد، فقالوا لي: “لدينا مَن هو أبْردُ منك”، فظهرت الدهشة على وجهي، وكنّا على مسافة أيام من بدء عطلة الصيف للمدارس، فمدّ يده أحدهم وأمسكَ بيدي وقال: “تعال معي”، وعبرْنا بعض الشوارع، وكانت الحرارة عالية، فشاهدنا شيخا يلتفّ بفروته الصوف لفّاً مُحكَماً، فسلّم عليه، فردّ السلام بأدب، فقال له: “عمّي أبو محمود كيف شايف الدّنيا اليوم”؟ فأجابه: “هَهْ مكسور سمّها شويّ”.
ذكرتُ لكم أنّ ثمن ليتر المازوت تجاوز ثلاثة عشرة آلاف ليرة، بمعنى أنّ راتبي وراتب زوجتي يمكن أن يشتريا كميّة ما تسدّ خرْقاً من خروق البرْد.. طيّب! لنفترض أنّنا اشترينا براتبيْنا مازوتاً لا يكفي، فماذا سنأكل؟!!
أقلقت راحتكم، منذ بداية الصباح، قرائي الأعزّاء، وما باليد حيلة، فلا بدّ للمُوجَع من أنْ يئنّ، وذاك هو أنينُنا، فكيف حال حاسدينا على ما نحن فيه؟!!
كيف حال أهلنا في غزّة الذين لا يجدون مأوى، ولا سقّفاً، بل مزيداً من الحمم الصهيونيّة الأمريكيّة؟!
كلّ ما نعانيه سببه الحصار الأمريكي الظالم، وسيستمر حتى ينكسر ذلك المشروع.. كسر الله عظام ظهره، وظهر فاسدي الداخل.