نفحات من حياة علي الدّرويش وعطاءاته الموسيقية
نجوى صليبه
لا يرد اسم علي الدّرويش ـ المولود في حلب 1884ـ كثيراً عند الحديث عن الموسيقا السّورية، كأسماء الموسيقيين الآخرين، على الرّغم من أنّ مسيرته التي يذكرها الباحث أحمد بوبس في الكتيب الصّادر عن الهيئة العامّة السّورية للكتاب ـ سلسلة “أعلام ومبدعون “2023 ـ غنية ومهمّة، يقول: “علي الدّرويش من أهم الموسيقيين السّوريين في القرن العشرين، نشأ في حلب في أوج ازدهارها الموسيقي، وعاصر عمالقة الموسيقا فيها، وتلقّى منهم معارفه الموسيقية، حتّى أصبح واحداً منهم”، مضيفاً: “تنوّعت عطاءاته الموسيقية، وتوزّعت ما بين العزف على النّاي وتلحين الموشّحات وإبداع المقطوعات الموسيقية، لكنّ عطاءه الأكثر أهمية كان في الأبحاث والدّراسات الموسيقية التي أغنى بها الموسيقا العربية، وجمعها في كتاب كبير”.
لقّب الدّرويش بـ”المصري” نسبة إلى أصله لجدّه المصري الذي انتقل للعيش في حلب وتزوج فيها، يؤكّد بوبس: “هو يقول ذلك في مقابلة أجرتها معه مجلة النّاقد المصرية في عام 1928″، موضّحاً أنّ الدّرويش أثناء دراستيه الابتدائية والإعدادية، تابع دراسته الموسيقية على أيدي كبار الموسيقيين آنذاك، فأتقن أصول الموسيقا وعلومها، وتعلّم الموشّحات وطريقة تلحينها على يديّ اثنين من عمالقة الموسيقا في حلب، هما أحمد الشّعار وأحمد جنيد، واطّلع على الموسيقا الفارسية والهندية، وفي عام 1914 سافر إلى استنبول، وانتسب إلى معهد “دار الألحان”، حيث أكمل دراسته الموسيقية، وتابع دراسته لآلة النّاي، وتعلّم الرّياضيات الموسيقية، وبالإضافة إلى دراسته النّظامية، قرأ جميع الكتب الموسيقية في مكتبة معهد “دار الألحان”، فأصبح متعمّقاً في علوم الموسيقا الشّرقية جميعها، وبذلك غدا موسيقياً وباحثاً كبيراً، وبدأ عطاءه في مختلف المجالات الموسيقية.
بعد تخرّجه من “دار الألحان” عاد علي الدّرويش إلى حلب في عام 1922، يقول بوبس: “بدأ يمارس نشاطاته الموسيقية على نحو موسّع، فشارك في تأسيس نادي “الصّنائع النّفيسة”، وكوّن فيه فرقةً للموسيقا والغناء قادها بنفسه، وبدأ بتلحين الأغنيات، ولمّا كان المستعمر الفرنسي قد احتلّ سورية، لحّن عدداً من الأناشيد الوطنية الموجّهة ضدّ هذا المستعمر”.
ويذكر بوبس عدداً من الموشّحات التي لحنّها الدّوريش كـ”ياقاتلي بالتّهديد” و”مائس الأعطاف أزرى” و”من لمفتون العيون” و”آه من نار جفاهم”، مبيناً: “وله موشّحات كثيرة لم يطبعها، ولم ينشرها بسبب رحلاته الكثيرة، فضاعت”، ثمّ ينتقل بسلاسة إلى مؤلّفاته في الموسيقا الآلية، ويقول: “وضع الدّرويش عدداً من المقطوعات الموسيقية في قالبي “السّماعي” و”البشرف”، أمّا السّماعيات فقد وضع الكثير، منها “سماعي نكريز” و”سماعي راست كبير” و”سماعي نهوند”، ووضع “بشرفاً” وحيداً أطلق عليه “بشرف الكرم”، ويبلغ عدد أعماله الموسيقية من السّماعيات و”البشارف” ستين عملاً.
كان علي الدّرويش واسع الاطّلاع على الموسيقا الشّرقية بفروعها، وذاعت شهرته في كل البلاد العربية، فبدأت الدّعوات ترد إليه لزيارتها، يبيّن بوبس: “كانت أولى رحلاته إلى إقليم عربستان، واصطحب معه فرقةً موسيقية كبيرة، وأقام عدداً من الحفلات، واغتنم وجوده هناك، فزار طهران، واطلّع على الموسيقا الهندية، وفي طريق عودته توقّف في البصرة وبغداد، واطّلع عن قرب على الموسيقا العراقية بعد أن كان قد درسها نظرياً”، إلى قوله: “كانت أهم رحلة له إلى مصر التي كانت عاصمة الفنّ العربي، ففي عام 1927 تلقّى دعوةً لزيارة القاهرة من إدارة النّادي الموسيقي الشّرقي فيها، وتضمّنت الدّعوة إقامة مدّة ثلاثة أشهر بهدف التّعاقد معه على طباعة كتابه “القراءة الحقيقية في علم القراءة الموسيقية”، وبعد حضوره إلى القاهرة، وقّع معه النادي عقداً آخر مدّة ثلاث سنوات، يدرّس خلالها العلوم الموسيقية وأصول العزف على النّاي في النّادي، وقد تتلمذ على يديه في النادي كبار الموسيقيين المصريين مثل محمد عبد الوهاب ومحمد القصبجي ورياض السنباطي، أمّا أم كلثوم فلم تدرس في المعهد دراسة منتظمة، إنّما تلقت بعض الدّروس على يديه خارج المعهد”.
لم تقف شهرة الدّرويش هنا، بل وصلت إلى تونس، إذ لبّى دعوتها، واتّخذ من مدينة بوسعيد مقرّاً لإقامته في قصر ابتناه لنفسه ـ بحسب بوبس ـ وأطلق عليه اسم “قصر الزّهراء”، وعاش يبحث في الموسيقا العربية، والألحان الباقية من آثار الأندلسيين، ودوّن النوبات الأندلسية الـ13 التي عثر عليها، واطّلع على “المالوف” التّونسي، وحمل معه نوتات النّوبات الأندلسية التي دوّنها بيده وهي محفوظة في المكتبة الوطنية بحلب، ويتألّف من ألف ومئتين وثماني صفحات من الحجم الكبير.
في السّادس عشر من آذار من عام 1932، عقد في القاهرة أوّل مؤتمر للموسيقا العربية، وبحسب بوبس شكّلت الحكومة السّورية آنذاك الوفد السّوري إلى المؤتمر برئاسة علي الدّرويش، لكن السّلطات الفرنسية رفضت ذلك، بسبب مواقف الدّرويش المناهضة لها، يقول بوبس: “لمّا حان موعد افتتاح المؤتمر، رفض المشاركون افتتاحه وبدء أعماله، ما لم يشارك فيه علي الدّرويش، ما اضطر الدّيوان الملكي المصري إلى إرسال دعوة شخصية إليه، وبذلك تأخّر افتتاح المؤتمر يومين، ولمّا حضر الدّرويش قوبل بحفاوة بالغة، وقدّم ملاحظاته الفنية التي عدّها المؤتمر جزءاً من قراراته لأهميتها”.
بعد أن زار فرنسا وإيطاليا وألمانيا، واطّلع على الموسيقا الأوروبية الكلاسيكية، وأغنى معارفه، عاد علي الدّرويش إلى حلب في عام 1939، وبدأ مرحلة نشاط جديدة، يبيّن بوبس: “ساهم في تأسيس نادي حلب للموسيقا، وكتب مجموعة من المقالات في جريدة الدّستور، وفي عام 1944 زار القدس بدعوة من إدارة إذاعتها، وسجّل للإذاعة مجموعة من الموشّحات الأندلسية القديمة”.
في الحقيقة يستحق علي الدّوريش لقب “الرّحالة” بجدارة، ففي عام 1945 تلقّى دعوةً من الحكومة العراقية للتّدريس في معهد الفنون الجميلة ببغداد، وهناك تتلمذ على يديه عدد من الموسيقيين والمطربين ومنهم ناظم الغزالي، وبقي في عمله حتّى عام 1950، لكن ماذا عن دمشق؟ يوضّح بوبس: “زار علي الدّرويش دمشق مرّات عدّة، لكنّ الزّيارة الأكثر أهمية كانت في عام 1950، إذ درّس في المعهد الموسيقي الشّرقي الذي أسّسه فخري البارودي، ودعا معه ملحّن الموشّحات عمر البطش لتدريس الموشح ورقص السّماح في المعهد”.
بعد عودته إلى حلب، عمل الدّرويش مع الدّكتور فؤاد رجائي في معهد حلب للموسيقا، لكنّه لم يستمر طويلاً، فقد داهمه المرض، وتوفّي في داره بحيّ أقيول في السّادس والعشرين من تشرين الثّاني عام 1952، عن ثمانية وستين عاماً.
مسيرة حياة طويلة وغنية، أوجزها بوبس في أربعين صفحة لتصل إلى اليافعين واليافعات بسلاسة وسهولة، ولاسيّما أنّه اعتمد القصّة أسلوباً، أمّا أبطالها فهم تلاميذ على مقاعد الدّراسة، يسألون أستاذ الموسيقا ويجيبهم برحابة صدر وتشجيع ومديح، يقول بوبس: “في هذا الكتيب نفحات من حياة علي الدّرويش وعطاءاته الموسيقية، أقدّمها بأسلوب مبسّط إلى أبنائنا الفتيان والفتيات، لكي يتعرّفوا هذا الموسيقي الكبير وعطاءاته الموسيقية المتنوّعة، آملاً أن يكون لهم أنموذجاً يحتذى به في الدّأب والمثابرة، لكي يحقق كلّ منهم الهدف الذي يصبو إليه في المجال الذي يرغب فيه ويحبّه”.