رنا محمود: لا معنى للشعر إن لم يحمل قضية
أمينة عباس
تؤكد الشاعرة رنا محمود أن الكتابة تشبهها، والشعر هاجسها، فهو الملاذ لامرأة حالمة مثلها، تأوي إليه لتعبّر عما تشعر به بجرأة الأنثى المتمردة، فتقدّم نفسها من خلاله من دون رتوش، بقصائد تنهل من البحر تمرده، ومن الطبيعة ألوانها، لتشكل كشاعرة حروفها ولوحتها كفنانة تشكيلية.. ونذكر من دواوينها الشعرية “سر نبوءتي”، و”صرخة أنثى”، و”الأرض بعض ظلي”، و”حين ترسمني القصيدة”، و”الروناليزا”.
الشاعر جزء لا يتجزأ من البيئة التي ينتمي إليها، فكيف أثّرت على ما تكتبين؟.
الشاعر ابن بيئته، والطبيعة عامل مؤثر وأساس في رسم هيكل القصيدة، ولكوني ابنة البحر ربما تأثرت باللون الأزرق الذي يعطي مدى ودلائل عميقة تغوص في روح القصيدة، فيتكرّر في قصائدي، وهو تكرر عفو الخاطر، يتسلل خفية للكثير من نصوصي.
توصف قصيدتك بأنها ذاتية تتمحور في غالبيتها حول أناتك، فمتى يخفق الشاعر في تحويل التجربة الخاصة إلى عامة تلامس الآخرين؟.
أرى أن هذا التوصيف ملتبس وواقع في مطب التعميم وبعيد عن الإنصاف، فأنا كتبت للوطن والأرض والإنسان، كتبت للحب، وفي موضوعات اجتماعية كثيرة تلامس هموم الناس، ولا أنكر أن الأنا تظهر في بعض القصائد، لكنها غالباً هي الأنا الخارجة من سجن فرديتها إلى فضاء الأنا الجمعية، وقد مثلت فيها الذات العامة عند المرأة، فجعلتها امرأة قوية واثقة كالملكات مثل: “امرأة من زجاج أتشظى إن قُذفت بحجر” و”أنا المليكة الحرة التي شدت خيوط الأيام بأصابعها الباردة” وبالتالي يمكن القول إن الشاعر يخفق في تحويل التجربة الخاصة إلى عامة عندما يبتعد عن الهمّ العام ويغرق نصه في الإبهام.
تقولين: “الكتابة أنثى متمردة، ألهذا ابتعدتِ عن القصيدة الكلاسيكية واخترتِ قصيدة النثر؟.
قصيدة النثر تشبه الأنثى المتمردة، فهي كسرت قيودها وانطلقت حرة محلّقة في فضاءات لا منتهية، وتخلّصت من أسر الوزن والقافية كما تتحرر المرأة القوية الواثقة الثائرة من قيود القبيلة وسيوف الذكورة المسلطة على رقاب النساء.. لم أجد نفسي في القصيدة الكلاسيكية، ولا في النمط الكلاسيكي للمجتمع، فأنا عشتُ القصيدة كما أردتُها، ولطالما قلت: الكتابة تشبهني، وعلى الكاتب أن يشبه ما يكتب، وعلى الفنان أن يبدع لوحته مرآة روحه، وفي الفنون كلها يجب أن تكون الولادات طبيعية لا قسر فيها، والتمرد الذي قصدتُه هو تمرد على الأخطاء والأعراف والتقاليد الفاسدة وليس على الأخلاق ووجدان المجتمع السليم، فأنا أحترم بيئتي وأحبها، لكن أسعى لأن تكون جميلة نظيفة رائقة.
هل يضايقك وصف شعرك بأنه أنثوي؟.
بل يسعدني ذلك، إذا كان المقصود المعنى الواسع للوصف، فحروفي مغموسة برائحة الأنثى، والأنثى هي أمّ الكون، أمّا إذا كانت نظرة التوصيف لجهة قضية المرأة وما يدور في وجدان وإحساس الأنثى فأنا تناولت هذه الزاوية بنشوة وإشباع وأفتخر بذلك، لكنني تناولتُ الزوايا الأخرى أيضاً، فكان البناء كاملاً مضاء من كل نواحيه، فحروفي نبذت الحرب وحفرت بعيداً في الأرض وجلست مع الناس وعانقت فلسطين والشام والبحر والشجر والإنسان، لأنني أؤمن بأن الشعر إن لم يحمل قضية فلا معنى له.
قال ديمقريطس: “لا يمكن أن نكون شعراء من دون قدر ما من الجنون”.. فهل مارستِ هذا الجنون؟.
الجنون الإبداعي هو انفتاح للعقل وانطلاق لفتوحات جديدة.. جنون وجرأة وفكر وإحساس عالٍ بالكون تعني إبداعاً، وهذا ما كان طابعاً ميّز دواويني جميعها، بالإضافة إلى تلاقح الفن التشكيلي والشعر على أغصان جنوني الوارفة.
“يحق للشاعر ما لا يحق لغيره” كيف ترجمتِ هذه المقولة في شعرك؟ ومتى يتجاوز الشاعر الحدود التي يجب أن يقف عندها؟.
أجاز النقاد القدامى بعض المسائل البسيطة في اللغة للشعراء، على اعتبار أن الشعر فن يستحق موكبه أن يفسح له المجال ضمن المعايير الضرورية والشرط الجمالي، وأنا مع احترام قواعد اللغة، لكني لستُ مع تقديس الموروث، وأعتقد أن مقولة “يحق للشاعر ما لا يحق لغيره” تضيق كثيراً في قصيدة النثر.
بعد خمس مجموعات شعرية في رصيدك، ما هي النتيجة التي خرجتِ بها حول ماهية الشعر؟.
يدفعني البحث الدائم عن ماهية الشعر لاقتحام عوالم جديدة للقصيدة، فكلما ظننت أنني وصلت وصرت على مقربة من القبض على ماهية هذا الكائن السماوي وجدتُني أقبض على كمشة من سراب، فأعزم على السير أكثر، وهذا ما يجعلني أجدّد نفسي ولوحتي وقصيدتي.
حظيت دواوينك الشعرية بكثير من اهتمام النقاد، فكيف تتعاملين مع النقد؟.
أطرح تجربتي التي أراها حاضرة في المشهد الأدبي السوري، ويسعدني أن أراها محطّ اهتمام النقاد، فهم من يحكمون على تجارب الشعراء، وفي كلّ القراءات والدراسات التي تناولت دواويني آراء أعتز بها لأنها أضاءت على نصوصي وأعطتها أبعاداً جديدة وأنارت لي طرقاً جديدة.
كيف تفسرين الإقبال الكبير حالياً على كتابة الشعر من قِبل النساء؟.
الشعر برقّته وعوالمه أشبه ما يكون بالمرأة، لذلك تقتحم النساء تلاله، ولكن على الرغم من الصورة التي تبدو سهلة لدروبه أراها شاقة وصعبة المنال، وتستطيع من شاءت أن تعبّر عما يعتلج في نفسها، لذلك ظهر الكثير من الهلوسات والقليل من الخواطر والقليل القليل من الشعر الذي يحتاج إلى موهبة أصيلة وجهد متواصل.
ماذا أضاف الفن التشكيلي الذي تمارسينه للشعر لديك؟.
الطريق مليئة بالعثرات، والحيرة تنشر شباكها في كلّ خطوة، فما بالك بخطوات امرأة حالمة غايتها الأولى التعبير عن أفكارها التي تؤمن بها وهواجسها التي تشعّ بنارها، فاللوحة والقصيدة كلتاهما موقف ولحظة يشبهان بعضهما إلى حدّ ولادة اللوحة أو القصيدة.. إنهما توأمي الجميل ولا يمكنني الفصل بينهما ولا بين أحدهما وقلبي.
هل من جديد لديكِ؟.
مشروعي الجديد معرض فني أعبّر فيه عن العلاقة الوطيدة بين الشعر والفن، بين الحرف واللون، فالاثنان جناحان يجعلاني أطير في سماء واحدة بشفافية مطلقة، ورواية قادمة تتيح لي التعبير عمّا أريده لفضائها الأوسع الذي أرغب في الإبحار فيه بكل حريّة بعيداً عن قيود القصيدة الشعرية.