المصطلح.. إشكاليات مستمرة في ظل غياب منهجية محددة
أمينة عباس
على الرغم من أن علم المصطلح يُعدّ من أبرز القضايا التي تشغل الباحثين في الثقافة الإنسانية المعاصرة، لما يقوم به من دور حيوي وفعّال في ضبط المفاهيم وتشكيل النظريات وتحديد مناهج البحث وإقامة الجسور بين الباحثين وتعزيز المعرفة والفكر، فقد أجمع المشاركون في الندوة التي أقامها فرع دمشق لاتحاد الكتّاب العرب، مؤخراً، وحملت عنوان “إشكالية المصطلح” على أن المصطلح العربي لا يزال يعاني إشكاليات كثيرة في ظل غياب منهجية محدّدة متفق عليها في هذه القضية، وفي ظل فوضى مصطلحيّة تعوق التواصل والتفاعل والتراكم المعرفي، كما تعوق مواكب الإنتاج العربي لأحداث الإشكاليات المطروحة في مجالات البحث.
وبيَّن الدكتور إبراهيم زعرور رئيس فرع دمشق لاتحاد الكتّاب العرب في تصريحه لـ”البعث أن المصطلح بدأ منذ بداية التاريخ، وله أشكال متعدّدة في كل المجتمعات، وأن هناك محاولة تزوير وتزييف وإفساد له، بما يكفل مصلحة الفئة التي تحركه أو المجموعات التي تقف وراءه، ورأى أن مهمتنا محاولة الكشف عن ذلك، مع اعترافه بأننا فقراء في هذه المسألة، حيث لم تجد قضية المصطلح برأيه اهتماماً رسمياً أو مؤسساتياً لا من قبل مجامع اللغة العربية ولا من قبل المؤسسات الثقافية والتربوية، لذلك كان من واجب الاتحاد -كما رأى- باعتباره جزءاً من المشهد الثقافي السوري طرح هذا الموضوع للنقاش لتعرف الأجيال الحالية والقادمة ما هو صحيح وما هو مزيف من المصطلحات، بدلاً من ترديد المفهوم الشائع لها والذي يحمل في مضامينه ما هو خطر، مع تأكيده ضرورة ربط هذه المصطلحات بنشـأتها والعودة للتاريخ لفهم حقيقتها، منوهاً بأنه وعلى الرغم من أن العرب حققوا إنجازات عظيمة في العلوم والثقافة والفكر وكانت اللغة العربية حاملاً لها، لكن المصطلح لا يزال يعاني الكثير من الأزمات.
مصطلحات دخيلة
وأكد الدكتور عبد الله السليمان أستاذ تاريخ الشرق القديم في جامعة دمشق أهمية العودة إلى التاريخ القديم لمعرفة أصل المصطلحات المستخدمة ودلالاتها وعمقها ومدى شموليتها وصحة استخدامها من عدمها، ورأى أنه من الخطأ الشائع إرجاع استخدامها إلى التوراة من دون العودة إلى ما قدمته حضارات الشرق القديم الغنيّ بها، مبيناً أن عموم الجمهور يعدّ هذه المصطلحات مجهولة الدلالة والمعنى.
ورأى السليمان أنّ من واجبه توضيح دلالات وعمق هذه المصطلحات، مع الإشارة إلى المصطلحات الدخيلة التي يحاول الغرب فرضها من وجهة نظره، واختلافها بين قواميس وأبحاث الشرق والغرب مثل مصطلح “بلاد الرافدين” أو “بلاد النهرين” الذي يُستخدم في قواميس الشرق ويختلف كثيراً عن مصطلح “ما بين النهرين” كما تشير إليه الدراسات والقواميس الغربية.
مصطلحات شائعة
وأشار الدكتور عمار النهار الأستاذ في قسم التاريخ بجامعة دمشق إلى بعض المصطلحات التي يتمّ تداولها بشكل كبير، وهي تعني في معناها عكس ما يُقصد بها كمصطلح “الاستعمار” الذي يُتداول عادة للإشارة إلى المحتل والغازي، في حين أن معناه اللغوي يعني من استوطن وعمّر البلاد، وهو عكس ما يُقصد منه سياسياً، كما تحدث عن مصطلح الحضارة السائد والذي أصبح متجذراً في العقول، وهو مصطلح يستخدم بكثرة في يومنا هذا، فتوقف عند مفهومه العربي ثم مفهومه الغربي، موضحاً أن هذا المصطلح لا تعريف له في المعاجم العربية سوى أنه عكس البداوة التي هي التنقل، وتالياً فإن هذا المصطلح بمعناه اللغوي قاصر وليس له سوى معنى واحد وهو مصطلح لم يأتِ القرآن على ذكره ولم يتعامل معه ولم يُستخدم عند العرب إلا بعد القرن الثامن عشر من خلال بعض الأسماء التي اتجهت إلى أوروبا وجلبت هذا المصطلح حينما عادت إلى بلادها، في حين أنّ الغرب يستخدمه كمفهوم للتبعية، وهو دلالة على ربط العالم بالحضارة الغربية المتحضرة مقابل عالم غير غربي همجي ومتخلف، وهو ما يبرر سياساتهم في الاحتلال.
الإشكالية الحقيقيّة
وبيّن الأستاذ محمد علي حبش مدير تحرير مجلة “الأدب العلمي” في جامعة دمشق، في مشاركته، أن الحاجة غدتْ ماسّة اليوم إلى الكتابة البحثيّة والتدريس بمصطلحاتٍ عربيّة موحّدة، متمنياً أن يكون طرح هذا الموضوع من خلال الندوة قاعدة لانطلاق باحثين وخبراء آخرين يهتمون بمسألة المصطلحات العربية وترجمتها والاتفاق عليها واعتمادها موحّدة، والوصول إلى حلول عملية لتوفير المصطلح المناسب وتوحيد استعماله، مشيراً إلى أن العلماء العرب القدامى ركّزوا على الشروط الواجب توفرها في المصطلح الجيد، بحيث يكون منسجماً مع مصطلحات بيئته، فلا يظهر شاذاً، وهم من دعوا إلى أن يكون المصطلح دالاً دلالة واضحة على المفهوم الذي يعبّر عنه من دون أن يحتمل مفهوماً آخر، وأن يكون مطابقاً من دون غموض للفكرة أو المفهوم، مبيناً أن مسألة المصطلحات ليست مسألة فنيّة أو تقنيّة، بل هي مسألة بحثيّة في حدّ ذاتها، إذ ليس المهمّ المفردة أو اللفظ بل المفهوم الذي تعكسه. ورأى حبش أن تجاوز إشكاليات المصطلح يتطلّب منّا الاطلاع ومعرفة ما تمّ إنجازه على هذا الصعيد من توليد للمصطلحات وترجمتها، وهو يحتاج إلى شرطين آخرين: الأول هو إدراك تطوّر العلوم بمختلف مناحيها لكي يعكس توليد المصطلحات تطوراً داخلياً، بحيث نستنبط مصطلحات تعكس تفكيرنا وأبحاثنا بصورة حقيقيّة، أما الشرط الثاني فهو توافر المرونة اللغويّة في الترجمة، مع تأكيده أن صناعة المصطلح المهيّأ للشيوع والقبول هو ثمرة مزدوجة لجهدين: الأول هو جهد المختص في الحقل المعرفي، وهو الذي يضمن عدم اللبس في فهم المعنى وسلامة إدراكه، والثاني جهد عالم اللسان أو اللغوي، وهو الذي يؤمّن قبول الصياغة، موضحاً أن مشكلات المصطلح هي في الازدواجية اللغويّة، فالمفهوم الواحد يعبّر عنه بأكثر من مصطلح في المنطقة العربيّة، وهي ازدواجيّة منافية لأهم مبادئ علم المصطلح الواحد، مع إشارته إلى أن إشكاليات المصطلح لا تزال قائمة منذ قرن، وأن اللغة العربيّة ليست بمعزل عن هذه الإشكاليات، وهذا يجعله يؤكد أن الإشكالية الحقيقيّة تكمن في أننا لم نفكر في مقاربة نظريّة في علم المصطلح لوضع تصور المصطلح ضمن مقاربة اصطلاحيّة معجميّة، وهذا يتطلب برأيه اتّباع منهج التوحيد أو التقييس الذي يعني توحيد استعمال مصطلح حتى لا تتشتّت المفاهيم العربية، مبيناً أن العربي أنتج في العصر الحديث عدداً هائلاً من المصطلحات، تشكّل رصيداً مهماً في المصطلحات العلميّة والفنيّة، ومع هذا ما نزال نعاني غياب المنهجيّة الواضحة المكتملة من القواعد ضمن نظرية عامة في التوليد المصطلحي.
وأشار حبش إلى العديد من المصطلحات التي صنعها أفراد أو مراكز معادية (إسرائيل، أميركا، الغرب عموماً) والإشكالية تتعلّق باستخدامها من قبل كثير من الكتّاب والصّحفيّين لترسيخ ثقافة الاحتلال والسيطرة وفرض إرادتهم على العرب، وقد أراد الصّهاينة والمستعمرون إشاعتها وتسويقها لأنّها تتوافق مع مشروعهم المعادي بهدف قلب الحقيقة، ومن هذه المصطلحات: “الشرق الأوسط، الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، الشرق الأوسط الكبير، الشرق الأوسط الجديد، العالم العربي”.