مؤامرة شيطانية لتدمير شعب فلسطين
عناية ناصر
لا يبدو أن الأمر يتعلق بالمقاومة الفلسطينية ولا بالأسلحة التي تخفيها أو بأي عذر آخر كي تقوم قوات الكيان الصهيوني بمهاجمة المدارس والجامعات الفلسطينية، إنها مؤامرة لتدمير الشعب الفلسطيني، حيث تتعمّد سلطات الاحتلال الإسرائيلية استهداف كل المؤسسات التعليمية في فلسطين سواء أكانت في قطاع غزة أم في الضفة الغربية وخارجها. فلماذا تقوم بمثل هذا الشيء؟.
إذا لم يكن لدى الفلسطينيين مؤسسات تعليمية لتدريب الأطباء والمهندسين والمحامين والمؤرّخين وعلماء الرياضيات وعلماء الدين والمحامين، وكل مهنة أخرى ضرورية لبقاء الأمة وازدهارها، فأيّ نوع من المجتمع سيكون لديهم؟ في هذه الحال لن يتمكّن الأطباء والممرضون المدرّبون من علاج مرضاهم، ولن يتمكّن المهندسون والمعماريون من بناء البنية التحتية الحيوية مثل المباني والطرق وأنظمة المياه والصرف الصحي والسكك الحديدية والمطارات، ولن يتمكّن الأشخاص غير المتعلمين من التنافس مع الدول الأخرى فيما يتعلق بالتمويل والتجارة الدولية مع المحاسبين والاقتصاديين والمخططين الماليين والمصرفيين الاستثماريين المهرة، كما لن يتمكن الأساتذة والمعلمون ومديرو المدارس من تعليم طلابهم القراءة والكتابة والرياضيات والتاريخ والدين والعلوم مثل الأحياء والكيمياء والفيزياء، ولن يكون لدى الصحف ووسائل الإعلام صحفيون وباحثون ومذيعون إذاعيون مدربون وما إلى ذلك. بمعنى آخر، أمّة بلا علم محكوم عليها بالفشل، والإسرائيليون يدركون ذلك جيداً.
فقد أفاد المرصد “الأورومتوسطي” لحقوق الإنسان أن قوات الكيان الإسرائيلي قتلت 94 أستاذاً جامعياً، إلى جانب مئات المعلمين وآلاف الطلاب، في إطار حرب الإبادة التي تشنّها ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، كما قتل العديد من الأساتذة وأفراد عائلاتهم في قطاع غزة، واستهدفت قوات الاحتلال الإسرائيلي شخصياتٍ أكاديمية وعلمية وفكرية في القطاع بغارات جوية متعمّدة ومحدّدة على منازلهم دون سابق إنذار، كما تم ترك المستهدفين تحت الأنقاض، إلى جانب أفراد عائلاتهم وعائلات نازحة أخرى. إن عدد الأساتذة والمدرسين والإداريين والطلاب الفلسطينيين الذين قتلوا هو علامة على أن العاملين في مجال التعليم هدف مشروع للإسرائيليين.
ووفقاً للتقديرات الأولية، أدّت الهجمات الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة إلى استشهاد المئات من طلاب الجامعات، حسبما أفاد المرصد. وأشارت المنظمة الحقوقية إلى أن تدمير الجامعات وقتل الأكاديميين والطلاب سيزيد من صعوبة استئناف الحياة الجامعية والأكاديمية عندما تنتهي الإبادة الجماعية، قائلة: إن استئناف الدراسة قد يستغرق سنواتٍ في بيئة دُمّرت بالكامل. وحسب وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، استشهد 4327 طالباً وأصيب 7819 آخرون، بينما استشهد 231 معلماً وإدارياً وأصيب 756 خلال الهجمات المستمرة. وفي الوقت نفسه، تم تدمير 281 مدرسة تديرها الدولة و65 مدرسة تديرها “الأونروا” في قطاع غزة بشكل كلي أو جزئي.
تستهدف “إسرائيل” الممتلكات الثقافية والتاريخية للشعب الفلسطيني لمحو تاريخه، وكذلك لتدمير أي معرفة يمتلكها لإعادة بناء مجتمعه. وفي هذا السياق، حذّر المرصد من أن التدمير المتعمّد والواسع النطاق الذي تقوم به “إسرائيل” للممتلكات الثقافية والتاريخية الفلسطينية، بما في ذلك الجامعات والمدارس والمكتبات والأرشيف، يظهر سياستها الواضحة المتمثلة في جعل قطاع غزة غير صالح للسكن. وتخلق الهجمات بيئة خالية من الخدمات والضروريات الأساسية، وقد تجبر سكان القطاع في نهاية المطاف على الهجرة.
وشدّد المرصد على أن استهداف القوات الإسرائيلية للأماكن المدنية، ولا سيما تلك التي تعدّ آثاراً تاريخية أو ثقافية تحميها قوانين خاصة، لا يشكّل فقط انتهاكاً خطيراً للقانون الدولي الإنساني وجريمة حرب بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، ولكنه يقع ضمن نطاق جريمة الإبادة الجماعية.
هناك ما يشير إلى وجود أجندة وراء عمليات القتل الجماعي للأشخاص العاملين في مجال التعليم. وفي هذا الخصوص نشرت صحيفة “تورنتو ستار” مقالاً مثيراً للاهتمام بعنوان “كيف يحرم “قتل المدارس الإسرائيلي” الفلسطينيين من ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم”، وجاء فيه “لقد أعرب الأكاديميون عن مخاوفهم بشأن هذا النوع من التدمير الذي يطلقون عليه اسم “قتل المدارس”، مشيرين إلى ثلاث ظواهر ذات صلة وهي : تدمير البنية التحتية التعليمية في غزة، والاعتداءات على الجامعات في غزة والضفة الغربية، فضلاً عن المضايقات والهجمات الخطيرة على كبار أعضاء هيئة التدريس والطلاب الذين يدعمون فلسطين داخل النظام الجامعي “الإسرائيلي”. “قتل المدارس” هو مصطلح يوضح كيف يؤثر تدمير “إسرائيل” لنظام التعليم في غزة بشكل مباشر في ماضي الشعب الفلسطيني وحاضره ومستقبله.
يهدّد التدمير بمحو ماضي غزة، فعلى سبيل المثال، كانت الجامعة التي تعرّضت للتفجير مؤخراً تضمّ أيضاً متحفاً وطنياً يحتوي على قطع أثرية نادرة. وسواء تم تدمير تلك القطع الأثرية، أم تمّت سرقتها من “إسرائيل”، كما تتهم جامعة “بيرزيت” في الضفة الغربية، فإنها خسارة للفلسطينيين. ومع تدمير الأرشيف والأماكن المعمارية، سيبدو الأمر كما لو أن الفلسطينيين لم يعيشوا هناك قط. وإذا استمرّ الوضع الحالي، فمن المرجّح أيضاً أن تُحرَم غزة من سكانها في المستقبل.
وقد أكد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مجدّداً معارضته الدائمة لقيام دولة فلسطينية قائلاً: “في المستقبل، يتعيّن على “إسرائيل” السيطرة على المنطقة بأكملها من النهر إلى البحر”. ووفقاً لعبد الرزاق التكريتي، أستاذ التاريخ في جامعة “رايس” في تكساس الذي يشغل أيضاً منصب رئيس المؤسسة التعليمية العربية الأمريكية، لا يمكننا كعلماء فهم كيف من الممكن أن نبقى صامتين بينما يتم استهداف زملائنا بالقنابل التي تقدّمها بلداننا”. وأضاف: “إن هذا الهجوم هو هجوم على التنوير في المجتمع، وسوف يسبّب الجهل وقلة الفرص. إن “قتل المدارس” هو جانب خطير للغاية من الإبادة الجماعية.
لا يقتصر الأمر على غزة فحسب، حيث يتم أيضاً استهداف جميع المؤسسات التعليمية في فلسطين من قوات الكيان الإسرائيلي. وفي هذا الشأن أصدر المجلس النرويجي للاجئين تقريراً في الفترة من كانون الثاني 2018 حتى حزيران 2020، ووجد أن “الأطفال الفلسطينيين في الضفة الغربية واجهوا طوفاناً من الهجمات على التعليم، وبوتيرة هائلة بلغت 10 هجمات شهرياً في المتوسط”. واستند البحث إلى فترة 30 شهراً، ووجد أن 296 هجمة ضد التعليم من قوات الكيان “الإسرائيلي” أو المستوطنين وحراس الأمن الخاص في المستوطنات وقعت خلال 235 حادثة منفصلة.
إن تصرّفات “إسرائيل” ليست أقل من مؤامرة شيطانية لتدمير فلسطين وشعبها، فهي تمنح “الإسرائيليين” العذر الذي يحتاجون إليه لوصف الفلسطينيين بـ”الحيوانات” التي لا تعرف حتى القراءة أو الكتابة، وأن الفلسطينيين لا يعرفون كيف يكسبون لقمة عيشهم، ولهذا السبب يعتمدون على المساعدات الخارجية.
وذكر تقرير صادر عن منظمة العفو الدولية أن “الفلسطينيين في جميع المناطق المحتلة لديهم فرص أقل لكسب العيش والمشاركة في الأعمال التجارية مقارنة بـ”الإسرائيليين”، وأنهم يواجهون قيوداً تمييزية على الوصول إلى الأراضي الزراعية والمياه والغاز والنفط وغيرها من الموارد الطبيعية، فضلاً عن القيود المفروضة على توفير خدمات الصحة والتعليم والخدمات الأساسية”.
لا يريد دُعاة الحرب الصهاينة سوى القضاء على أيّ أمل في مستقبل أفضل للشعب الفلسطيني من خلال محو جميع أشكال التعليم التي من شأنها أن تسمح لهم بالنهوض بمجتمعهم، وهذا شيء لا يريد “الإسرائيليون” رؤيته يحدث.