في تهافت العدوان الأمريكي ودوافعه
أحمد حسن
كما في كل مرة سابقة، لا يبدو أن للنفاق الأمريكي حدوداً يقف عندها، كما أنه لا حدود أيضاً لضعف المؤسسات الدولية – بل غيابها – أمام فجوره، ولا حدود أيضاً لعمالة “بعضنا” أمامه.
ومرة أخرى تستعيد واشنطن الكذبة ذاتها، فهي، حسب بيان رئيسها ووزير دفاعه بعد عدوانهما ليل الجمعة الماضي على سورية والعراق، تدافع عن نفسها، وهي أيضاً “لا تسعى إلى الصراع في الشرق الأوسط، أو في أي مكان آخر في العالم”. إنها فقط تردّ على من يسعى إلى “إلحاق الأذى بها”، على ما قاله البيان المنافق.
والحال أنه تبريرٌ متهافت لا يصمد أمام أيّ تفصيل صغير من تفاصيل ما جرى ويجري، فواشنطن التي وضعت عدوانها الأخير في سياق الردّ على الهجوم الذي استهدف قاعدة “البرج 22” في الأردن، تتجاهل، أو تحاول التعمية على، أمرين متلازمين: أولهما أن القاعدة المذكورة تخدم فعلياً “قاعدة التنف” غير الشرعية في جنوب شرق سورية، والتي بدورها تخدم فعلياً تنظيم “داعش” الذي “تعمل الولايات المتحدة على إحياء نشاطه الإرهابي”، وكل القوى الإرهابية الأخرى، في سياق محدّد، وهو منع قيامة سورية من أزمتها ومنح واشنطن بقعة جغرافية تتيح لها إدامة الصراع في المنطقة والسيطرة على مجرياته وتوجيهه حسب مصالحها؛ أما الأمر الثاني فيتمثل بأن منع قيامة سورية ليس هدفاً جديداً بقدر ما هو سابق على أزمتها الحالية ويتصل فعلياً بالموقف السوري من القضايا الإقليمية والعربية وعلى رأسها فلسطين ورفضها – أي دمشق – أي حلّ لا يأخذ بعين الاعتبار الحق الطبيعي والمشروع للشعب الفلسطيني في دولته المستقلة، وذلك كلّه تدرجه دمشق في سياق موقف واضح يدعو إلى أن يأخذ أبناء المنطقة بأيديهم زمام أمورهم لأنهم الأقدر والأكثر حاجة لمنطقة سلام وتنمية، وهذا تحديداً ما كان يقف خلف مشروعها الكبير للبحار الخمسة.
بهذا المعنى، يجب إدراج عدوان واشنطن الأخير في سياق أعمالها الإجرامية التي تصبّ في سياق “تأجيج الصراع في منطقة الشرق الأوسط على نحو خطير للغاية”، كما قالت وزارة الخارجية السورية، لأن أحداً، ورغم إنكار البيت الأبيض، لا يمكن له إلا أن يلاحظ اندراجه في سياق الصراع في فلسطين كلها، لا “غزّة” فقط، حيث تقف واشنطن، كعادتها، مع القاتل في مواجهة الضحية والعالم كله تقريباً، وهو، بهذا المعنى أيضاً، يختزن، وفي هذا التوقيت، بعداً داخلياً، فهو، كما أكدت الخارجية الروسية، “محاولة لاستعراض العضلات بهدف التأثير في الوضع السياسي الداخلي في أمريكا، والرغبة في تصحيح المسار الفاشل للإدارة الأمريكية الحالية على الساحة الدولية”، وذلك ما يكشفه التجاذب حوله، تصعيداً لا تخفيضاً، بين الديمقراطيين والجمهوريين.
من جهتهم، فإن البعض في المنطقة، وهم من المستفيدين حصرياً، يصرّ على أن المشكلة فينا؛ فنحن، برأي هؤلاء، من نعتدي على واشنطن البريئة التي لا تسعى إلّا إلى تجنّب التورّط في صراعات جديدة، بينما هذا الأمر لا يحتاج إلّا إلى التوقف عن تأجيج الحرب في “غزّة”، وعن دعم الإرهاب في سورية، والأهم “إلى إعادة تقييم علاقاتها مع عملائها وتقليصها بشكل كبير”، وحينها لن يستهدف أحد واشنطن، ولن تضطرّ للرد الذي سيستجلب بدوره ردّاً آخر لن يتوقف، كما تقول كل السوابق التاريخية وكما يقول كل الأحرار، لا العملاء، حتى خروج آخر محتل من أراضينا.
هنا على واشنطن، تحديداً، أن تقرأ ما حدث جيداً، فحين تستخدم دولة عظمى قوة أكبر من “الفعل” الذي أصابها فذلك دليل ضعف لا قوة، وحين يكون الردّ على طائرة مسيّرة بالقاذفات الاستراتيجية المنطلقة من أراضيها البعيدة آلاف الكيلومترات عن موقع الحدث، فهذا دليل على أن استثماراتها بالقواعد العسكرية والأتباع والعملاء خاسرة.. وذلك درس تاريخي مبين.