مزدحمة بملامحه الوحيدة
غالية خوجة
الخرير المسافر ينتظر معنا وجوهَ من نحب في هذا الفراغ الكوني المتأرجح مع مفردات الطبيعة، فلا هنا، ولا هناك، لكنها البوابة الأزلية تفتتح برازخها، فترتجف الأرواح، وتكتشف كيف تشفّ الموجودات حتى الغياب.
وفي اللا محدَّد، تماماً، بين ظل الماء وظلي، غيم وضباب ووقت وأعشاب تفسح لموسيقا الغيب العبور، وتترك النسائم تلملم زقزقتها، وتعانق المعنى، فلا يبقى المكان حضوراً ولا الزمان غياباً، بل ترفرف وجوهُ من نحب في آخر لحظة من الضوء لتستعيد ملامحها، ويعانق الفجر ظلالها وظلالنا التي رحلت، وترحل، وسترحل، وتنمو الأشعة فراشات ماكثات تجهل الرحيل.
كل الوجوه المزدحمة في قلبي تشبه ملامحه وحد، ألذلك، أراني أعانقه نبضات مشرقات بالرؤى والصبر ومعزوفات تألفها نايات جلال الدين الرومي، وروحانيات الشيرازي، ومقامات العارفين؟.
خرير اللغة يعبق بروحي، فتنبض الكلمات بأشعة جديدة، ومعانٍ مزهرة تجهلها الأزمنة وتعرفها القلوب الصافية، صوته يحزم لهفتي، فأراه نبضاً لكل نهر يهمي عليّ، وصوتاً لكل صمت يومئ إليّ، فنحلّق وراء النهايات، ونغوص أكثر في وجدانات اللغة، وأبجديات الكون، ونرفرف مع فضاءات لا تجهلها الأرواح، وتعرفها الجبال والسنابل والأقاح، وتعزفها المباخر، ولا تنساها ذاكرة البراري، ولا خطوات الشمس على الفصول، ولا أشعة القمر العابرة للعصور.
ليست المراكب التي كانت هنا سوى هذا الخرير، وليست ملامح الفجر سوى إشعاعات استعادت ملامحه لتكون كل الوجوه المحيطة بي، المزدحمة بي، المتسربة من كل غيب وحضور، لتصل معي إلى قلبي، أعني قلبه، وتحملني وراء الرياح والجهات واللغات، فنتفتّح إيقاعات هائمة في أعماق الكون.
لسنا الكواكب المهاجرة، لكنني نسيتُني في نبضه مذ كان جنيناً، فورث الذاكرة الأشدّ لمعاناً، والصفاء المنسوج بوفاء الجبال للغيم والأشجار، واللهفةَ الأسطورية بأمواجها الخالدة، وحكاياتها التي لا تعرف المغادرة.
نتجذّر نجوماً في التربة، ونشرد في لحظة لا نضيّعها ولا تضيّعنا، فننمو مثل لازورد السماء آنَ انبثاق النشيد، وتتدلّى أوراقنا عرائشَ مع كلّ بزوغٍ، ونصير ياسميناً معرّشاً بين البلدان، لا يحدّنا مكان ولا زمان.
إذا صدفَ ومررتَ قرب أنهار اللغة، وشممت عطر المعاني، لا تتخلى عن أحلامك، بل ازرعها سندياناً ستغطيه الثلوج ذات شتاء، وتكلّمه البحار ذاتَ صيف، وتكسوهُ الحكمة الدائمة.
لعلك مررتَ ودخلتَ البوابة الكونية، واقتربتَ من نفسك أكثر، فهل رأيتَ ظلالنا تتمايلُ نوافيرَ في فناء الفراغ الأزلي؟.
سيجذبك الصدى، لا تلتفتْ، بل تقدّمْ، واخلعْ ظلالكَ ضوءاً فضوءاً، وتقدّمْ، فلربما تجد قلبي في محارة، المحارة في بحرٍ معتّق، البحر في نبضة طير، الطير في شعلة غائمة، الشعلة في قطرة مطر، القطرة في غيمة ستعبر بعد دهور.
هل ما زلت تصغي إلى تلك الموسيقا؟
إذن، اخلعْ ما تبقّى منك من الفناء، واسبحْ في أعماقك أكثر، وحالما تبصر ما يبهر، لا تتوقف، بل احزم المعزوفات بنبضك، واحزم نبضك مثل السنابل، وانثرها كما ذرات الضوء على الوشيش الأرجواني، وتقدّمْ، سيبصرك الشعاع البنفسجي، وتناديك نبضاتُ أُمّ ازدحم قلبها بملامحك الوحيدة وحدها، وإذا ما اقتربتَ أكثر، ستكتشف كيف لم يظهر في المرايا الأبدية سوى وجهك يتلألأ في خرير الكون.